بقلم: سام منسى
نجحت كل من إيران وإسرائيل في وقت قياسي، بحشد أكبر عدد من الخصوم أو خسارة أكبر عدد من الأصدقاء؛ فإيران فقدت التعاطف الأوروبي معها المعلن أو الخفي، ودفعت الأوروبيين للاصطفاف مع حلفائهم الأميركيين على أساس أن إيران باتت مصدراً لزعزعة أمن المنطقة، وبلغت حد تهديد المصالح الاقتصادية الأوروبية باتهامها أنها وراء الأعمال الحوثية في البحر الأحمر، إضافة إلى غيرها من ممارسات حلفائها المتهورة في المنطقة.
أما إسرائيل، فقد فاقت عدوتها اللدودة إيران بتطفيش الأصدقاء، وبددت وقفة من واساها في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وبات العالم بأسره تقريباً يدين الوحشية الإسرائيلية في الرد على عملية «طوفان الأقصى»، والتعنت الإسرائيلي برفض كل المبادرات والوساطات، والإصرار على المضي بالعنف بهدف معلن هو القضاء على «حماس»، وأهداف أخرى مبيتة تبدأ بتهجير الفلسطينيين، ولا تنتهي باحتلال غزة وربما تهجير سكان الضفة الغربية.
إيران وإسرائيل وبعض الفصائل هم الفرقاء في حرب غزة والحروب الصغيرة الدائرة في الإقليم من لبنان إلى سوريا والعراق والبحر الأحمر، الذي يعد قنبلة موقوتة ستنفجر يوماً بوجه الجميع. صحيح أن الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية تتقاطع مع إسرائيل بهدف احتواء «حماس» وإضعافها، لكنها تخالف حكومتها اليمينية على بقية أهدافها من الحرب، لا بل تسعى عبر المبادرات والدبلوماسية الناشطة للتوصل إلى وقف الحرب، والوصول إلى تسوية سياسية سلمية مستدامة للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني والعربي - الإسرائيلي بشكل عام.
أطراف النزاع الرئيسية هذه، أي إسرائيل وإيران وفصائل أخرى، مجتمعة على رفض المبادرات والتسويات المطروحة قصيرة الأمد أو الدائمة، ما يدفع إلى التساؤل بشأن قدرة هؤلاء على العرقلة وإلى متى، لا سيما أن الحراك الدبلوماسي هو نتيجة تلاقٍ أوروبي - أميركي - عربي، خصوصاً خليجياً مصرياً وأردنياً على الأهداف الرئيسية، وهي حل الدولتين، والأمن الإقليمي، وتسوية العلاقات العربية - الإسرائيلية، بما يضمن الأمن لإسرائيل والفلسطينيين والعرب أيضاً.
لا بد من الاعتراف بأنها عناوين عريضة يحتاج كل منها إلى تفاصيل، أولها مضمون حل الدولتين وطبيعته، وماذا يعني الأمن الإقليمي؟ وكيف يمكن التوصل إليه؟ وأهمية الضمانات المطلوبة للأطراف المعنية، وما الجهة أو الجهات التي ستضمنها؟ وكيف ستجري مقاربة الحروب المشتعلة في أكثر من منطقة بين إسرائيل وحلفاء إيران المحليين؟ وما الأثمان التي ستدفعها إيران أو تتقاضاها؟ وهل تتوافق مع مفهومها للأمن الإقليمي؟ إضافة إلى كل ذلك، تبرز خشية إيران الكبرى من تسوية نهائية دائمة للنزاع، وتطبيع عربي - إسرائيلي بضمانات أميركية. ساعتها، ماذا سيكون ردها؟ وهل ستكون قادرة على تعطيل هذا المسار؟
من دون الدخول في تقصي رغبة إيران بالعرقلة أم لا، هل هي فعلاً قادرة على تعطيل مسار تسوية كبرى بعد نجاحها جراء عملية «طوفان الأقصى» بخلط الأوراق في المنطقة، خصوصاً تجميد عملية السلام بين العرب وإسرائيل برعاية أميركية؟
لا يجوز الاستخفاف بالمناخ السائد مؤخراً والساعي إلى إنهاء النزاع، لا سيما بعد ما كشفته عملية «طوفان الأقصى» وحرب غزة على أكثر من صعيد إسرائيلياً وعربياً - إقليمياً والنتائج المترتبة على أمن المنطقة ومصالح القوى الغربية وميزان القوة في الإقليم بعد الذي تعرضت له إسرائيل.
قد تكون إيران قادرة وحدها على رمي العقبات والمطبات أمام هذه التسوية إذا قدر لها أن تتبلور، وهي ليست وحيدة في هذه المعركة التي تعد رأس الحربة فيها، بعد أن باتت متجذرة في مناطق مهمة وحساسة في المنطقة من البحر الأحمر إلى حد تطويق إسرائيل من لبنان في الشمال وسوريا في الشرق وميليشيات حليفة منتشرة في العراق والهيمنة على اليمن وباب المندب، إضافة إلى كل إمكاناتها المنتشرة في العالم وعلاقاتها بقوى أخرى على اختلافها.
إيران و«حزب الله» والحوثيون... وغيرهم من أعضاء محور الممانعة في مقلب آخر تماماً. يعملون بصبر ومنهجية على تعزيز تحالف قد يشكل تحدياً مباشراً للنظام الإقليمي الذي أنشأه الغرب، ودافع عنه في الشرق الأوسط لعقود من الزمن، كما تظهر الهجمات الحوثية المدعومة من إيران على الشحن في البحر الأحمر أنها تمثل تهديداً للتجارة العالمية وإمدادات الطاقة.
إيران أيضاً ليست وحدها القادرة على التعطيل؛ لأنه ليس من الواضح إلى متى ستبقى إسرائيل تحت سيطرة اليمين المتشدد والعنيف الرافض كل أشكال التسويات، وأي تغيير محتمل لن يمر دون معارضة يمينية قد تلجأ إلى العنف والوسائل غير الديمقراطية.
عدا كل ذلك، يبقى العنوان الفلسطيني غائباً وتظهيره بحاجة إلى جهود عربية وأميركية وإسرائيلية واعية وحكيمة مؤيدة دور سلطة فلسطينية متجددة مقتنعة بالسلام الدائم.
لا بد أيضاً من عدم إغفال الدور الروسي المهتم بتعثر المساعي الأميركية في المنطقة لا بل تفشيلها، وقد تنضم الصين لاحقاً إلى الحلقة نفسها.
بالمقابل، الدول الغربية والعربية لا تريد أن تتحول الحرب في قطاع غزة إلى حريق إقليمي، لكن يبدو أن الوقت يسهم في تعميق الخلافات، وتسعير وتيرة «الميني حروب» في أرجاء المنطقة. الوقت أيضاً ليس لصالح إدارة جو بايدن الذي يواجه معركة شرسة سواء مع دونالد ترمب إذا تمكن من الترشح عن الحزب الجمهوري أو نيكي هايلي، ويحتاج إلى اختراق يبرز ولايته؛ لأن فوز ترمب قد يقلب الأمور رأساً على عقب، ومنها أحوال الشرق الأوسط وكل ما قامت به إدارته.
الاختراق لن يكون إلا بالضغط على إسرائيل الذي يصعب أن يتضمن وقفاً للدعم العسكري أو المالي أو حتى الدبلوماسي في المحافل الدولية زمن العزلة التي تعيشها ومثولها أمام المحكمة الدولية التي أمرتها بمنع الإبادة الجماعية. لا يبقى أمام بايدن إلا اعتراف الولايات المتحدة بالدولة الفلسطينية فوراً، ووضع حكومة نتنياهو أمام الأمر الواقع، لا سيما أنه سبق لإدارة بايدن أن مهدت الطريق لذلك عبر ما أعلنته من مواقف مؤيدة لحل الدولتين أبرزها ما أوضحه مستشار الأمن القومي جيك سوليفان في معرض كلام بشأن العلاقات العربية - الإسرائيلية المرتبطة بأفق سياسي للفلسطينيين: «إن الولايات المتحدة منخرطة بعمق في عملية جاهدة لتأمين أفق سياسي للشعب الفلسطيني... إن أفضل نهج هو العمل نحو التوصل إلى صفقة شاملة... الوصفة الأساسية هي السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب، أي حل الدولتين مع ضمان أمن إسرائيل». فهل يجرؤ بايدن على ترجمة كلام سوليفان إلى وقائع؟
عن الشرق الأوسط