موتى بلا شاهد، ومقابر بلا شواهد

 

لم أستوعب وأنا أقرأ في بيروت يوم العاشر من ديسمبر عام 2018 فاتحة الكتاب على أرواح 1500 من مجهولي الهوية الذين سقطوا في مجزرة صبرا وشاتيلا، لم أستوعب فكرة أن يموت كائن ويدفن، دون أن يكون له شاهد فوق قبره، وأن يدفن في مقبرة جماعية تضم ألفاً وخمسمائة من مجهولي الهوية، كان يجلس بقربي بعد أن أعد لي الشاي، حارس المقبرة عدنان علي المقداد، وعندما ذكر لي اسمه، بادرت بسؤاله: كم فقدت من أهلك؟ كنت أعلم أن عائلة المقداد اللبنانية فقدت نحو أربعين من أفرادها في شارع صبرا، وبالتحديد في حي عرسال المقابل لحرش ثابت، قال عدنان وهو يتنهد: والدي علي، ووالدتي فاطمة، و36 من أفراد العائلة من بينهم ابنة عمي إلهام، وعمي عبد الرؤوف، وابن عمي ياسر.

فهمت الآن في غزة كيف يعتقل الفلسطيني في ظروف غامضة، وينقل إلى جهات غير معلومة، ويقتل في ظروف غير معروفة، وفي تواريخ غير معلومة، ويعاد جثة في شاحنة مع عشرات جثث متحللة وشبه متحللة، ويدفن الجميع في مقبرة جماعية، لا وداع، ولا أهل، يأخذ أهل الخير صوراً للجثث، عل البعض يتعرف فيما بعد على البعض، شاهدٌ واحد يوضع على القبر: شهداء مجهولي الهوية.

الأكثر إيلاماً وإجراماً هم أؤلئك الشهداء والشهيدات من أطفال ونساء نعرف أسماءهم، وصورهم، وقصة قتلهم، كحكاية تلك الأسرة الغزية التي قصفتها دبابة وهي تستقل سيارة مدنية في غزة، تلك حكاية تناقلتها قناة الجزيرة اليوم، أدمت قلبي، وأسقطت دمعي، وزادت غضبي، مات الأب بشار، وزوجته، وابنه، وبناته الثلاث، ظلت ليان حمادة ابنة الخامسة عشرة، وهند ابنة السادسة، لم تصب هند بأذى، لكن ليان كانت مصابة، اتصلت بعمها لإنقاذها، وتواصل مع المستشفى المعمداني، وتواصل المستشفى مع الصليب الأحمر في رام الله للتنسيق مع جيش الاحتلال، أرسل الجيش خارطة لمسير سيارة الإسعاف، فانطلق طاقم الإسعاف إلى المنطقة الواقعة في مدينة غزة بالقرب من محطة الفارس للوقود، كان ذلك بعد تسع ساعات من وقوع القصف، واتصل أحد أفراد المستشفى بليان لتصبيرها، وسؤالها عن حالها وحال هند، قالت: إني أرى سيارة الإسعاف بالجوار، وهناك دبابة أيضاً قربنا، وفي لحظة فارقة، سمع المسعف عبر الهاتف ليان وهي تصرخ، وسمع رشقات إطلاق النار، قتلت ليان في الميدان من رشاش بندقية أوتوماتيكية، عمداً مع سبق الإصرار والترصد، وحتى الآن فقد الاتصال مع هند، ومع طاقم سيارة الإسعاف، ولا أحد يعرف مصير هند، أو مصير أفراد سيارة الإسعاف.

وفي أي لحظة ستعلن دولة قطر عن هدنة جديدة لتبادل الأسرى مدتها 45 يوماً، قد تفضي إلى وقف دائم للعدوان، وفي كل الأحوال، فلا يجب أن ننسى، وعلينا توثيق الجرائم التي ارتكبها المحتل قبل وبعد صدور قرار محكمة العدل الدولية، وهي كثيرة، طالت عائلات عديدة بعد صدور القرار في حي الجنينة، والنصيرات، والرمال، والمواصي، وغيرها كثير، وتوثيق جريمة فرقة المستعربين التي اقتحمت بلباس الأطباء والنساء مستشفى ابن سينا في الضفة الغربية، وقتلت الجرحى وهم على أسرة الشفاء، كل ذلك يجب أن لا يمر دون محاسبة، ودون مساءلة، والنافذة مشرعة الآن، والقضية مفتوحة في لاهاي، وعلى الأحرار توثيق الجرائم، وتزويد جنوب إفريقيا بالأسماء، والجرائم، وتفاصيل الإعدامات الميدانية التي من بينها تصفية أسرة بكاملها، والقضاء على من نجا من القصف باغتياله في الميدان، وليس أدل على الإجرام ومجازر الإبادة البشعة من حكاية ليان، وهند التي لا أظن أنها ما زالت على قيد الحياة، وأظن أن طاقم سيارة الإسعاف قد أُجهز عليه بالكامل.

كلمات مفتاحية::
Loading...