تنكشف إسرائيل التي تدير حربها فاقدة للتوازن إلى حد ساخر، لكن الأكثر سخرية هي الولايات المتحدة التي تجري خلفها بخفةٍ لا تليق بدولة عظمى، ولا حتى بدولة صغرى، كانت تلك الخفة تتجلى برئيس عجوز وضع كل أجهزة استخباراته الأكبر في العالم جانباً ليردد ما قاله له نتنياهو الذي يعرف أنه لا يتوقف عن الكذب، كما قال سموتريتش عن شريكه ليدين بايدن قطع رؤوس الأطفال، ثم يعتذر واضعاً البيت الأبيض أمام كوميديا سوداء.
مطلع الحرب على غزة كانت واشنطن تندفع متهورة نحو تل أبيب، يطير رئيسها إلى الكابينت ويعلن وزير خارجيتها يهودية لا تليق بثميل دولة علمانية، يعطيان ضوءاً أخضر لدولة مجروحة دون أن يدركا أنهما سيضطران لتسول ترشيدها للحرب بعد فوات الأوان، بعد أن يكتشفا أن تلك الخفة ستكلف الحزب الديمقراطي وساكن البيت الأبيض بيته كما كلفت سكان غزة بيوتهم.
لم تتعلم واشنطن الدرس للمرة الثالثة، تندلق الولايات المتحدة خلف تهمة إسرائيل المكشوفة للأونروا لتعلن قطع التمويل عن تلك المنظمة "الإرهابية" لأن بعض موظفيها إثنا عشر منهم من بين ثلاثة عشر ألف موظف، متهمون بالمشاركة في السابع من أكتوبر، وتجرّ خلفها تسعة دول قبل أن تكتشف بعد ثلاثة أيام خفة اندفاعها باحثة عن مخرج على نمط الحاجة لتحقيق كما تقول خارجيتها، لأنه كما تقول متأخرة "لا يوجد طرف بمقدوره توفير المساعدات في غزة بقدر ما تفعل الأونروا ونريد أن يستمر هذا العمل".
لكن سقطة الأونروا تختلف عن السقطات السابقة، فتلك لها تاريخ يختفي خلفه مشروعاً إسرائيلياً مبيتاً بدأ يطل برأسه منذ سنوات، عندما ظن نتنياهو أنه في طريقة لتشطيب الملف الفلسطيني في عهد ترامب بصفقة أسماها "صفقة القرن" وقفز نحو الإقليم ليحقق بعض التطبيع مع دول ليست مركزية، وقد بدا الأمر كأنه على وشك التحقق. حينها ظهرت الفكرة المكملة التي عقد نتياهو لها اجتماعا مطلع عام 2018 بإلغاء الأونروا وإنهائها، ونقل اللاجئين إلى المفوضية العليا للاجئين، ما يجرد ملايين اللاجئين من صفة اللاجئ.
في ذلك العام شهدت الأونروا خفضاً مالياً غير مسبوق، حال دون قدرتها على دفع الرواتب بإنتظام، وفي ذلك العام كان جاريد كوشنير مستشار البيت الأبيض وصهر ترامب يدعو إلى "بذل جهود مخلصة لتعطيل الأونروا" هذا بعد أن وصف والد زوجته الرئيس الذي بدا آنذاك مثل دمية في يد نتنياهو، الأونروا بأنها "فاسدة بشكل لا يمكن إصلاحه".
تلك هي الرواية التي لم تكن تحتاج إلى مشاركة أفراد من حماس يعملون في الأونروا في الأحداث.
من العبث النقاش حول مسؤولية الأونروا عن فعل يرتكبه أي موظف بتعليمات من منظمة أخرى، فالجميع يمد أصابعه ويجند في تلك المؤسسة بمن فيهم مخابرات إسرائيل والمخابرات الأميركية، وليس فقط حماس، ولكن الإختراق لتلك المؤسسة لا يحمّلها مسؤولية، بل يحمّل الأطراف العابثة، لكن نزول النقاش في محاججة مدى مسؤولية الوكالة بهدف تبرئتها، بات يشبه السذاجة الأميركية في التعامل مع الوقائع شديدة الوضوح.
من سيقوم بتحمل مسؤولية هؤلاء اللاجئين بغزة؟ هذا ما اكتشفه البيت الأبيض بعد صحوة. الحل لدى بنيامين نتنياهو، نرحّل سكان غزة ولا يبق لها ضرورة، أو بشكل آخر إذا ما فشل الترحيل القسري ننهي الأونروا فيهاجر الناس حين تتقطع بهم السبل ولا يبقى من يقدم لهم ممكنات الحياة، فهي من وجهة نظر مهندس إسرائيل، سبب لإدامة اللاجئين وليس استمرار لجوئهم بسبب الاحتلال. هكذا يتم قراءة الأشياء بالمقلوب في عالم مقلوب تقوده دولة تقرأ الأشياء بالمقلوب أو تقرأه بعيون مختلة، بل وماكرة.