كنا قد أشرنا في المقال السابق إلى الأصول الجينية وادعاء وحدة الأصل لليهود في فلسطين، وكيف حظرت دولة الاحتلال إجراء فحوصات الحمض النووي بذريعة أن الأمر قد يحمل آثاراً وطنية تؤدي إلى نسف الرواية الصهيونية والقومية اليهودية.
في عرض موجز لتاريخ الاستيطان الصهيوني في فلسطين منذ الـ " ييشوف " ولما بعد احتلال عام 1967 انتشرت المستوطنات بشكل سريع ومتتابع، فتم إقصاء أهل الأرض الفلسطينيين من المناطق المستهدفة لصالح الاستيطان إما بواسطة الاحتلال العسكري المباشر أو المصادرة تحت ذرائع شتى لترجمة المشروع الاستعماري الكولونيالي على أرض الواقع.
كان من تداعيات هذه السياسة الاحتلالية وتوزيع المستوطنات بين القرى والمدن العربية الفلسطينية وخاصة في سنوات الانتفاضة الثانية وزرع "شارون" لما أسماهم بـ "فتيان التلال" في كل موقع مطل على المدن والقرى الفلسطينية، كان من تداعيات هذه السياسة أن تقطعت أواصر التواصل الإنساني والجغرافي الفلسطيني بل؛ وشكلت عقبة كأداء في طريق إقامة دولة فلسطينية والحد من تواجد ديمغرافي فلسطيني لصالح التمدد الجغرافي الاستيطاني، واعتبار، وبناءً على عقيدة تشكلت في أذهانهم أن أهل البلاد الأصلانيين ليسوا بشراً ومتخلفون! مما منحهم تبريراً لسلب الأرض وطرد وإبادة أهلها.
إن ما ورد ليس افتراءً أو محض خيال بل بعض مما جاء في كتاب "دولة اليهود" لمؤلفه "ثيودور هرتسل" منشئ الحركة الصهيونية حيث قال: " نحن سنكون هناك – يعني أرض فلسطين – جزءاً من الحصن الأوروبي ضد آسيا وموقع تحصن مقابل البربرية."
ترى ما هي الأسباب التي دعت القوى الإمبريالية والكولونيالية العالمية لدعم الحركة الصهيونية؟ وما هي حقيقة تطور هذه العلاقات وكيف نشأت؟ وكيف تمكنت الحركة الصهيونية من تطوير علاقات ومصالح مع حكومات معروفة بكرهها الايديولوجي لليهود في الوقت الذي كانت فيه فلسطين وباقي الدول العربية مكاناً آمناً ليس لليهود فقط بل لكافة الأقليات التي كانت تهرب من مجازر القوى الاستعمارية العالمية منذ القرن التاسع عشر؟
في هذا المقال، واستكمالا للمقال السابق الذي بحث في ادعاءات وحدة الأصل اليهودي، سنبحث في تطور الحركة الصهيونية العالمية وكيفية حصولها على وعد بلفور من بريطانيا والمعروف بعنصريته فهو القائل (لا يولد الرجال متساوون، ولا يولد العرقان الأبيض والأسود بقدرات متساوية فهم يولدون بقدرات مختلفة لا ولن يستطيع التعليم تغييرها) وشمل اليهود بعنصريته الإثنو-دينية، واستقطب في هذا الدعم الشعبي البريطاني عندما وضع "قانون الغرباء" عام 1905 الذي واجه بالأساس التهجير الذي قامت به روسيا لأكثر من 5 ملايين يهودي. (في المقال السابق طرحنا صلاتهم الجينية بالخزر).
كانت فترة أوائل القرن العشرين من أكثر الفترات تعقيداً في حياة اليهود الأوروبيين، فبالتوازي مع انطلاق الحركة الصهيونية شهدت أوروبا انطلاقات كبيرة بين اليهود هناك تعارض الفكر الصهيوني وتدعو إلى الاندماج في المجتمعات الأوروبية، وكان الحال كذلك في روسيا إذ تأثرت الثورة البلشفية بأفكار تروتسكي والذي كان بدوره مناهضاً للفكر الصهيوني حتى اغتياله عام 1940 في المكسيك. وقد كانت (الجماعة العامة للعمال اليهود 1897) والمتأثرة بالفكر التروتسكي من أوائل الجماعات التي عارضت مؤتمر بازل والحركة الصهيونية وقد حمل أعضاؤها السلاح لمواجهة كراهية اليهود والحركة الصهيونية معاً، كذلك تشكل (الاتحاد الوطني لمناهضة الصهيونية) الذي رأى في ألمانيا في ذلك الوقت أكثر الدول أماناً لليهود في أوروبا واكتسب هذا الاتحاد العديد من المؤيدين اليهود ذوي الفكر الليبرالي والذي تشكل كرد فعل على دعوة هرتسل في المؤتمر الصهيوني الثاني عام 1898 بــ "غزو التجمعات" وكذلك حركة نطوري كارتا الدينية.
في ظل هذا المناخ لم تكن الحركة الصهيونية قادرة على جمع التأييد الشعبي لها في الوسط اليهودي في أوروبا، ولكنها وجدت دعما من الوسط السياسي في بريطانيا بشكل أكبر حيث كانت دعوتها لتهجير يهود أوروبا إلى فلسطين حلاً من وجهة نظر كثير من السياسيين الأوروبيين العنصريين مثل اللورد بلفور وستالين الذين رأوا ولأسبابهم الاستعمارية العنصرية أن الخلاص من مشكلة يهود أوروبا يكمن في إخراجهم منها بمساعدة الحركة الصهيونية. ولهذا، نجد أن أغلبية اليهود الأوروبيين المهاجرين الأوائل إلى فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر كانوا من الفقراء والمحتاجين الذين لم يكونوا يملكون شيئا في أوروبا واستقبلهم الفلسطينيون وساعدوهم.
زد على ذلك فقد كان وعد بلفور بذاته ثمناً دفعته الحكومة البريطانية للحركة الصهيونية مقابل ضمانها، أي الحركة الصهيونية جر حكومة ويدرو ويلسون رئيس الولايات الأمريكية المتحدة آنذاك للمشاركة في الحرب العالمية الأولى وتقديم الدعم الأمريكي لفرنسا وبريطانيا ضد ألمانيا والنمسا والامبراطورية العثمانية، إذ كانت مجريات الحرب العالمية الأولى تنبئ بانتصار ألمانيا ودول المحور على بريطانيا ودول الوفاق وهنا لعبت الحركة الصهيونية دوراً أدى إلى إحداث تغيير حاسم في مجريات الحرب بعرضها هذا وإقناع الولايات المتحدة على دخول الحرب إلى جانبها. وهذا ما ذكره بينيامين فريدمان في خطاب كشف فيه كيف قامت الحركة الصهيونية باستغلال النفوذ اليهودي في ألمانيا والولايات الأمريكية المتحدة لتمرير خطتها الاستعمارية في فلسطين. وهكذا تقاطعت مصالح الحركة الصهيونية مع الحركة الاستعمارية.
وبالحديث عن فريدمان، فقد كان شخصية مرموقة ذا تاريخ تجاري قوي أوصله إلى الدخول في الأوساط الإدارية للرئاسة الأمريكية فرافق وديرو ويلسون وروزفلت في الكثير من اجتماعاتهم العلنية والسرية، ولشدة عدائه للحركة الصهيونية فقد تم اتهامه باللاسامية وإنكار المحرقة النازية لليهود مما جعل منه شخصية غير مقبولة في أوساط العامة، وكان رأيه في إقناع الحركة ليهود أمريكا بدعم الحكومة الأمريكية للتدخل في الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا، خيانة للتسامح الألماني مع اليهود الذين هاجروا من شرق أوروبا ومنحتهم ألمانيا ملجأً ومساحة استثمار قوية فيها. زد على ذلك بأنه ونتيجة لوعد بلفور تحولت الكثير من المؤسسات اليهودية في مواقفها تجاه الحركة الصهيونية خاصة في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد أدى انتشار الفكر الاشتراكي بين يهود ألمانيا إلى اتخاذهم موقفاً معارضاً للفكر الصهيوني فكان لا بد من تدخل الحركة الصهيونية في الحد من ذلك ولكنها جوبهت بتحديات كبيرة في أوساط المجتمع الألماني فكرياً بسبب الهزيمة في الحرب.
بالعودة لعنوان المقال وارتباط الصهيونية بالكولونيالية برز خلال الحرب اسم حاييم وايزمن البيلاروسي الأصل كأحد رموز الصهيونية في بريطانيا. ففي وقت مبكر من عام 1907، قام بحملة في المؤتمر الصهيوني الثامن في لاهاي من أجل دمج الصهيونية السياسية والعملية، وقد جمع في ذلك بين الأنشطة السياسية والدبلوماسية والعمل العملي للاستعمار في فلسطين، وتم تبني أفكاره في الحركة الصهيونية فتمكن من جعل المصالح الصهيونية متوافقة مع السياسة الخارجية الإمبريالية لبريطانيا العظمى، وأصبح وايزمان في مدة وجيزة زعيمًا لشبكة ضمت العديد من الشخصيات المؤثرة كالمصرفي الليبرالي اللورد والتر روتشيلد والذي تولى رئاسة بنك إنجلترا وبحلول النصف الثاني من سنوات الحرب تم قبول الصهيونية في الأوساط الأرستقراطية البريطانية مما أدى لتكريس نفوذها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الحركة الصهيونية ما فتئت تقاوم معاداتها في ألمانيا حتى وجدت ضالتها بانتخاب الحزب النازي بزعامة هتلر عام 1933، وكانت ألمانيا في ذلك الوقت تواجه مقاطعة عالمية في الاستيراد والتصدير، فاستغلت الحركة الصهيونية مقاطعة العالم لألمانيا النازية وقامت بتوقيع (اتفاقية هاآفارا - اتفاقية التهجير) بين مؤسسة ألمانيا الصهيونية والبنك الإنجلو-فلسطين بإدارة الوكالة اليهودية من جهة وبين الحزب النازي من جهة أخرى حيث نصت هذا الاتفاقية على تسهيل هجرة ما يقارب 60 ألف يهودي من ألمانيا إلى فلسطين مقابل بيع هؤلاء اليهود أملاكهم للحكومة الألمانية واستبدال بعض أثمانها ببضائع ألمانية يأخذوها معهم واسترداد البعض الآخر في فلسطين. امتدت فترة هذه الاتفاقية بين عامي 1933 و1939 وقدرت بما قيمته ال 35 مليون دولار في ذلك الوقت مما جعل ألمانيا النازية الداعم الأول بنسبة 60% لأنشطة الحركة الصهيونية في فلسطين. ومما يذكره التاريخ، تسليح الحزب النازي لحركتي شتيرن والبلماخ وتأثر جابوتنسكي الكبير بالفكر الفاشي العنصري القائم على الإثنية العرقية.
وعودة إلى فريدمان، فإن الحركة الصهيونية زادت من عداء ألمانيا لمواطنيها اليهود كونهم السبب الرئيسي وراء توسيع انتشار المقاطعة العالمية لألمانيا النازية، علاوة على ما حدث خلال الحرب العالمية الأولى والعداء النازي للفكر الشيوعي الذي تبناه الكثير من اليهود في ألمانيا. وهكذا نرى أن الصورة قد توضحت بما لا يدع مجالاً للشك للأسس التي قامت عليها الحركة الصهيونية في حشد دعم الأنظمة السياسية الحاكمة في أوروبا وأمريكا لها دون أدنى اكتراث سواء كان ضحاياها من اليهود أو من الفلسطينيين، إذ أن النظام النازي استغل أفعال الحركة الصهيونية في أوروبا بتوحيد ليس فقط الألمان، بل أيضا الكثير من الروس والفرنسيين والإنجليز في تأجيج الكره لليهود سواء كانوا مؤيدين للصهيونية أم معارضين لها، وهذا بالضبط هو ما أرادته الحركة الصهيونية واستخدمته في إجبار يهود أوروبا بالهجرة إلى فلسطين وتهجير أهلها.