كان لدى الشعب الفلسطيني وعياً للدور الاستعماري الذي لعبته بريطانيا في التواطؤ مع اليهود منذ العشرينات من القرن الماضي، بدليل تفجر ثورة البراق عام 1929، وإضراب الستة أشهر عام 1936، لكن وعيهم بأهداف الهجرات اليهودية إلى فلسطين، لم يكن مكتملاً، كانوا ينظرون إلى اليهود باعتبارهم غرباء، ولم يظنوا أبداً أن هؤلاء المهاجرين، سيشكلون نواة سكانية، تمهيداً لبناء دولة على أرض فلسطين، الوحيد الذي تنبه لهذا الخطر، كان مثقفاً عربياً اسمه نجيب عازوري، قال إن الصراع سيكون بين قوميتين عربية ويهودية، كان ذلك عام 1905، ولم يتنبه أهل فلسطين بما يكفي، إلى مخالفة بريطانيا لصك الانتداب.
وأما الحركة الصهيونية، فكانت تعتزم القيام بتطهير عرقي لفلسطينيي الداخل، سواء وافق الجانب الفلسطيني على قرار التقسيم أم لم يوافق، رغم أن القرار أعطى اليهود 56 بالمائة من أرض فلسطين التاريخية، وعندما رفض العرب التقسيم، وخاضوا حرباً مع الدولة المحتلة الوليدة التي أعلنت بتاريخ 14 أيار 1948، أخذت إسرائيل ما نسبته 78 بالمائة من مجمل الأرض، وبقيت 22 بالمائة، هي مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، وربما 21 بالمائة حسب مصادر أخرى.
وفي عام 1967، أخذت إسرائيل الـ 22 بالمائة الباقية، واستولت بذلك على مجمل الأرض، ومنذ ذلك اليوم، الخامس من حزيران عام 1967، قامت الحركة الصهيونية على ركيزتين، الأولى هي الأرض، وقد أصبحت بيدها، والثانية هي الديموغرافيا، وهي أن تكون الأرض لليهود فقط، وهذا يستوجب منها العمل على التخلص من السكان الفلسطينيين، وهذا جوهر ما تريده، وما حاولت تحقيقه؛ الأرض دون السكان، ومن هنا انطلقت في حملة الاستيطان في الضفة الغربية وفي قطاع غزة بشكل محموم، ومن أجل بناء المستوطنات، يجب أن تستولي على الأراضي، وهذا ما فعلته على مدى العقود الماضية، وللاستيلاء على مزيد من الأراضي في محيط المستوطنات، كان لا بد من الاستحواذ على مزيد من الأراضي لتأمين الطرق الالتفافية بحجة حماية المستوطنين.
تفتيت الجغرافيا الفلسطينية كان هدفاً آخر لا يقل أهمية، بهدف منع أي محاولة لقيام دولة فلسطينية، فمن ناحية فإن المستوطنات الصهيونية شكلت خوازيق قطّعت أوصال مساحة الضفة الغربية جغرافياً، ومن ناحية أخرى لا تقل أهمية، أن هذه البؤر الاستيطانية، ستتوسع مع مرور الوقت، لتصبح بلدات يتم تسمينها على حساب الفلسطيني وأرضه، وأصبح الفلسطيني يعيش ضمن هذا الواقع في "غيتوهات" صغيرة؛ تجمعات سكانية مكتظة في مساحات تضيق، رغم ازدياد أعداد الفلسطينيين سنة بعد أخرى، وهذا ما يقلق إسرائيل.
جاءت اتفاقية أوسلو لتشرعن لإسرائيل - دون قصد -، غير الشرعي، وتمنح إسرائيل الزمن والوقت لمواصلة مشروعها الاستعماري، لذلك نرى أن المستوطنات التي بنتها إسرائيل، والأراضي التي صادرتها في زمن السلطة على مدى ثلاثين عاماً، أكثر من الأراضي التي استولت عليها قبل التوقيع على أوسلو.
الوضع القائم اليوم سوداوي للغاية، ورغم ذلك فقد تأكد لإسرائيل، كما تأكد لحليفتها واشنطن، أن مشروع التفريغ، والتطهير، والتهجير، بات أمراً مستحيلاً، وكانت المنازلة في غزة خير شاهد للعالم كله، أن الفلسطيني غير قابل للاقتلاع، ووجد الغرب أن الحل الأفضل هو قيام دولة فلسطينية، والدولة الفلسطينية التي يقصدها الغرب اليوم، ليست دولة مكتملة الأركان، لكنها ستسمى دولة، وستكون عضواً في هيئة الأمم المتحدة، ولها علم، ومطار، ونشيد وطني، ورئيس، ومؤسسات، دولة فاقدة للسيادة، مسالمة بالضرورة، منزوعة السلاح، ولن يكون هناك حديث عن عودة لاجئين، ولا اقتصاد مستقل، سيبقى اقتصادها تابعاً لإسرائيل، والمساحة التي ستقوم عليها الدولة، تقل عن 5 بالمائة من مجمل مساحة فلسطين التاريخية، هذا إذا لم تقتطع إسرائيل أراض من شمال غزة، والمستوطنات ستظل في مكانها، وسيبقى سكان المستوطنات يحملون السلاح، ويستخدمون طرقاً التفافية لن يسمح للفلسطيني باستخدامها.
بقيت حقيقة أخيرة: لولا مقاومة غزة الضروس لقوات الاحتلال، والخسائر الجسيمة التي وقعت بين صفوف أفراده ومعداته بصورة غير مسبوقة منذ قيام دولة الاحتلال عام 1948، لما بادرت واشنطن إلى الحديث المكثف عن ضرورة قيام دولة فلسطينية، حتى أنها تفكر جدياً الاعتراف بالدولة قبل التوصل إلى أي اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين، ذلك أن البيت الأبيض أصبح على قناعة بضرورة قيام دولة فلسطينية، لضمان أمن إسرائيل، وليس لجمال عيون الشعب الفلسطيني، ويظل الفلسطيني دوماً بين خيارين، توافق أو تخسر أكثر، توافق على هذه الأرض، أم نبني لك جزيرة في قلب البحر المتوسط!