لعنة انتصار إسرائيل في 1967 أوصلتها إلى 7 أكتوبر

 

في كل انتصار عسكري واضح، نِعمَة. كما أن في كل انتصار عسكري واضح، ما لم تتم ترجمته إلى انتصار سياسي، لعنة.
فلسطين وإسرائيل تبادلتا المواقف، خلال قرن كامل من الصراع. والكلام هنا عن «العدو» و«البديل». فالأفراد والشعوب والدول تتقاتل وتخوض الحروب ضد بعضها البعض، ولكنها تصل في النهاية إلى تسويات واتفاقيات وتعايش وتصالح، وربما تحالف، بل واندماج في شكل سياسي ما، في لاحق الأيام.
لكن الفلسطينيين رأوا في اليهودي القادم الى فلسطين، ليس مجرّد عدو يقاتلونه، بل «مستوطناً» جاء ليحلّ محلّه.
لم تكن الهجرة اليهودية الصهيونية في نظر الفلسطينيين مجرد «عدو» يجب مواجهته، والتوصل معه، الى تسوية ما. ولا بد من توضيح:
على مدى خمسة عقود كاملة، منذ سنة 1917 (وعد بلفور) وحتى سنة 1967، كان تقييم قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية للصراع مع الحركة الصهيونية، على أنه صراع وجود، وأن «أرض فلسطين» لا تتّسع لهويتين: هوية فلسطينية عربية، وهوية يهودية صهيونية؛ فإما نحن، على «أرض فلسطين» أو هُم على «إيرتس يسرائيل».
قال «المندوب السامي» البريطاني الأول، اليهودي الصهيوني هيربرت صامويل، يوم توليه منصبه في 1920 هذا الكلام صراحة، وبفجاجة: «إن سياسة حكومة صاحب الجلالة، (يقصد الملك البريطاني، جورج الخامس) التي جئت هنا لتنفيذها، هي تشجيع اليهود للسيطرة على الأرض (الفلسطينية)».
جاء قرار التقسيم سنة 1947، وإعلان إقامة «دولة إسرائيل» سنة 1948 من جهة، وتقطيع خريطة فلسطين إلى ثلاث قطع: مناطق خطوط الهدنة بين إسرائيل و«دول الطوق» والضفة الغربية التي أُلحقت بالضفة الشرقية، وقطاع غزة الذي وضع تحت الإدارة المصرية؛ وتقطيع وحدة الشعب الفلسطيني الى أربع قطع: فلسطينيي الـ48، فلسطينيي الضفة الغربية، فلسطينيي قطاع غزة، وفلسطينيي اللجوء والشتات، من جهة ثانية، لتزيد من اقتناع الشعب الفلسطيني بصواب وجهة نظره: فلسطين لا تتسع لهويتين، فإما نحن، أو هُم.
بعد عشرين سنة على قرار التقسيم، والنكبة، حلّت بالعرب وبالفلسطينيين كارثة حرب حزيران. جاء رد الفعل الأولي على تلك الكارثة، في مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، بصيغة الـ»لاءات» الثلاث: «لا سلام مع إسرائيل؛ لا اعتراف بإسرائيل؛ لا مفاوضات مع إسرائيل» التي نجح أحمد الشّقيري، أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، بفرض نشر نَصّها في البيان الختامي لتلك القمة. لكن ذلك لم يكن، عملياً، أكثر من كلام حماسي انفعالي ملائم للمظاهرات، في حين أن الواقع السياسي الحقيقي والملموس، فرض نفسه، بفعل طبيعة كونه واقعاً، على الطرفين، العربي والفلسطيني:
ـ على الصعيد العربي:
1 ـ تم استبدال شعار «تحرير فلسطين» بشعار: «إزالة آثار العدوان». وهو ما يعني، (بلغة الواقع الملموس) غض النّظر عن «الاحتلال الإسرائيلي الأول» لمناطق الـ48 داخل خطوط الهدنة (الهدُنات العربية الإسرائيلية) والتركيز على الاستعمار الإسرائيلي لشبه جزيرة سيناء المصرية، ولمرتفعات الجولان السورية، ولمزارع شبعا اللبنانية، وكذلك، بطبيعة الحال، للضفة الغربية (والقدس الشرقية منها) ولقطاع غزة.

2 ـ لم تنتهز إسرائيل هذا التوجّه العربي، ولم تطرق باب التوصل الى مفاوضات واتفاقات سلام، توفر الاستقرار والازدهار لها وللمنطقة، وظلّت اسيرة نشوة انتصارها، الى أن نشبت «حرب الاستنزاف» التي بادرت اليها مصر بقيادة جمال عبد الناصر، ولحقتها مناشدات من الرئيس المصري أنور السادات، لم تستجب لها إسرائيل، وكان لا بد لها من صدمة تعيدها الى رشدها. وهكذا كانت حرب 6 أكتوبر 1973 هي الصدمة، ولكنها كانت صحوة مؤقتة، أعادت فيها كل سيناء الى مصر، وسحبت مستوطناتها من هناك؛ ولكنها «عادت الى عادتها القديمة» معتقدة أن خروج مصر (المؤقت) من ساحة الصراع العسكري المباشر، يجعل يدها طليقة، تتحكم بكل ما احتلته واستعمرته من فلسطين وسوريا ولبنان.
ـ على الصعيد الفلسطيني:
1 ـ بعد معركة الكرامة (21.3.1968) وإثر استقبال الرئيس جمال عبد الناصر، لوفد من حركة فتح، برئاسة «الناطق الرسمي» للحركة، ياسر عرفات، واعتماد حركة فتح كـ«العمود الفقري للثورة الفلسطينية» تم تكليف القائد الفلسطيني، الشهيد صلاح خلف (أبو إياد) بإيفاد القيادي الفتحاوي، محمد أبو ميزر (أبو حاتم) إلى فرنسا، ليعقد هناك مؤتمراً صحافياً، يقول فيه: «إن ما تناضل وتقاتل الثورة الفلسطينية من أجله، هو إقامة دولة فلسطينية من النهر الى البحر، يتعايش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون بسلام ومساواة دون أي تمييز». وكان هذا الطرح مفتاح باب إضفاء الشرعية على النضال الفلسطيني في الكثير من الأصعدة الشعبية والرأي العام، وتجنيبها مخاطر تصنيفها كحركة إرهابية.
2 ـ بعد أن رفضت إسرائيل هذا الطرح، (بحجة أنه يعني تدمير دولة إسرائيل) انتقلت منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت حركة فتح قد أصبحت هي التنظيم المهيمن عليها، وبدعم من غالبية كبيرة في المجلس الوطني الفلسطيني، لإقرار ما عُرف بمبادرة برنامج النقاط العشر، الذي تبنى «إقامة دولة فلسطينية على أي شبر يتم تحريره أو جلاء الاحتلال عنه». هذا الطرح، أيضاً، ضاعف من إضفاء الشرعية على العمل والنضال الفلسطيني على الصعيد العربي، وحركة عدم الانحياز، والأمم المتحدة لاحقاً.
3 ـ بعد بدء الهدوء على جبهة المواجهة مع مصر (وسوريا، طبعاً) حاولت إسرائيل السيطرة على ما أطلقت عليه اسم «فتح لاند» في جنوب لبنان. ولكنها اضطرت، بعد قصف قوات الثورة الفلسطينية لمدينة نهاريا، لطلب وقف إطلاق النار يوم 23 يوليو 1981، وبعد انسحابها من كل شبه جزيرة سيناء، وخروج مصر (المؤقت) من ساحة الصراع العسكري المباشر معها، التقطت أول مبرر لاجتياح جنوب لبنان ومحاصرة العاصمة اللبنانية بيروت، وبعد صمود فلسطيني أسطوري على أرض غير فلسطينية، اضطرت منظمة التحرير الفلسطينية الى الخروج، هي وقواتها، من أرض غير فلسطينية. وهنا جاء دور العمل العسكري من المنافي البعيدة، والعمل السياسي المبادِر وجاء «المدد» من الانتفاضة المباركة الأولى. ونجحت منظمة التحرير الفلسطينية في الاستفادة منها، وفي فرض حضورها في «مؤتمر مدريد» وإن كان ذلك بدخولها من «باب موارب» مع الوفد الأردني، وصولاً الى اتفاقية أوسلو، وبدء العمل لتحقيق الأهداف المشروعة للشعب الفلسطيني.
هكذا كانت تطورات الأمور. والذي أسقط اتفاقية أوسلو هو التيار البالغ العنصرية في اليمين الإسرائيلي الميسياني، مستعيناً بمبررات وفّرتها عمليات عسكرية فلسطينية. ولا ينفي هذا الكلام، مطلقاً، مشروعية وضرورة وواجب مواجهة وضرب الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، لكن بتحديد أهداف تستحق الضرب، وبأسلوب وعقل مستنير.
ثم، على الجانب الصهيوني الإسرائيلي:
ـ في العقود الخمسة الأولى من الصراع، 1917 ـ 1967، كان الموقف الصهيوني الإسرائيلي، عكس الموقف الفلسطيني العربي. كان منطقهم يقول: هذه الأرض «إيرتس يسرائيل» تتسع لنا ولكم.. تعالوا نتفاهم ونتعاون أو نتقاسم.
ظلّت هذه الديباجة اللفظية قائمة ومتواصلة حتى حرب 1967. ثم بدأت علامات النشوة، وبدأت براعم الصهيونية العنصرية الميسيانية في الظهور والنمو، وبدأت حركة الاستيطان/الاستعمار.
الآن، وبعد أكثر من خمسة عقود ونصف العقد، على استعمار الضفة، (والقدس الشرقية منها) وقطاع غزة المنكوب، أصبحت هذه الفئة الصهيونية العنصرية الضالة، هي الحكومة الإسرائيلية.
نعرف من التاريخ ودروسه، أن الانتصار في الحرب، واحتلال واستعمار أرض الغير، يعطي للمنتصر منافع كبيرة، شريطة الاستفادة منها كأوراق للمفاوضات خلال فترة زمنية محدودة. لكن، كلما زاد زمن وسنين الإحتلال والاستعمار، فإن منافع المنتصر في الحرب تتلاشى وتذوب، ويصبح مجتمع الجيش المنتصر هو الخاسر في الرهان النهائي.
وحرب إسرائيل على غزة وأهلها هذه الأيام، ونبذ العالم لها، وجرّها إلى قفص الاتهام في محكمة العدل الدولية خير دليل.

 

Loading...