لمعالجة الحالة المعنوية التي تزعزعت في إسرائيل على المستويات الشعبية والحزبية والعسكرية، جرّاء عملية «طوفان الأقصى»، تسرعت مؤسسات القرار في الدخول دون إعداد كافٍ لاجتياح بري لقطاع غزة، باستخدام كل وسائل القوة بحدودها القصوى.
قرار كهذا أدّى إلى حالة بدت الحرب فيها منذ يومها الأول وحتى نهاية شهرها الثالث، كما لو أن إسرائيل تخوضها مغمضة العينين دون تحقيق نتائج مقنعة، يسوقها المستوى السياسي للجمهور، ويستعيد الجيش من خلالها ثقته بنفسه على نحو يعيد ثقة الجمهور به.
خلال الشهور الثلاثة التي تتواصل فيها الحرب، ظهر مأزق الجيش والمستوى السياسي، من خلال التغطية الدعائية التي اتسمت بالسذاجة؛ إذ زفّ نتنياهو للجمهور اقتراب الجيش الإسرائيلي من منزل يحيى السنوار؛ ما أوحى بقرب إلقاء القبض عليه أو قتله، وكأن الرجل الذي قاد أكبر معركة خسرتها إسرائيل منذ تأسيسها وفي داخلها، يجلس في الصالون منتظراً «جيش الدفاع» كي يسلم نفسه له.
وهذا القول على سذاجته قيل ما هو أكثر سذاجة منه حين زف الناطق باسم الجيش بشرى العثور على فردة حذاء للسنوار، ما وفر لأحمد الطيبي مادة سخرية أضحك بها العالم على إسرائيل من فوق منبر الكنيست.
لم تتوقف السذاجة في تأليف الإنجازات عند هذا الحد، بل لا تزال تسمع عبارات مكررة حول الاستيلاء على كميات كبيرة من السلاح، وتدمير غرف محصنة في بنايات، قيل إن السنوار كان يستخدمها كمقار قيادة، ناهيك عن ادعاء تنظيف مناطق في شمال وقلب غزة وتسويق ادعاء السيطرة عليها كانتصار نوعي، ليعلن بعد ساعات عن سقوط قتلى إسرائيليين في المكان نفسه.
في إسرائيل تحققت نتيجة عكسية تماماً؛ إذ ازداد الشعور بفقدان الثقة بالجيش والمستوى السياسي ذلك من خلال ارتفاع الأصوات الساخطة باتجاهين: الدعوة الصريحة إلى وقف الحرب والخروج من جحيمها بما في ذلك الانسحاب من غزة.
وكذلك اتساع مساحة الضغط على صناع القرار بالذهاب إلى المفاوضات مع «حماس»، لتخليص الأسرى بعد أن بدا مستحيلاً تخليصهم بالحرب.
بعد فشل المراحل التي أطلق عليها الأولى والثانية يتصاعد الحديث عن الثالثة بنبرة تشي بأنها الأخيرة في هذه الحرب، وبدل الاعتراف الصريح بفشل المراحل التي سبقتها، اخترعت مصطلحات جديدة لإقناع الجمهور، مثل تقليص عمليات التوغل في المدن الغزية ما يعد بتقليل الخسائر البشرية، مع تسريح أعداد كبيرة من جنود الاحتياط، والتموضع في أماكن يمكن الدفاع عنها.
وخفت الحديث عن قرب أسر وقتل السنوار ومن معه، وكثر تداول عبارة أن الحرب ستطول أشهراً، والبعض ذهب إلى القول سنوات.
المرحلة الثالثة... وفق التصنيف الإسرائيلي لفصول الحرب، هي الترجمة الإسرائيلية للخطة الأميركية التي عرضها وزير الدفاع أوستن منذ اليوم الأول، وتجاهلها المستويين السياسي والعسكري، وقوامها عدم التوغل البري في غزة، والاعتماد على القصف من البر والجو والبحر مع هجمات مركزة على مواقع محددة، وهكذا.
حتى الآن يجري الحديث عن المرحلة الثالثة دون تفاصيل رسمية تعلن عنها بصورة مباشرة، وربما يرى المستوى القيادي أن من الأفضل الإعلان عنها بالتقسيط خشية الظهور بمظهر الهزيمة، بعد أن كان النصر الحتمي هو الرواية الثابتة التي رافقت الحرب على مدى الأشهر الثلاثة من عمرها... المفتوح على الزمن.
المرحلة الثالثة هي مرحلة الانصراف إلى الجهد السياسي الأعلى وتيرة من العسكري، الذي تهندسه الإدارة الأميركية، ولكن بحذر، تحت عنوان الإفراج عن المختطفين بالتفاوض، وعبر هدن متقطعة، ربما تفضي إلى وقف تدريجي لإطلاق النار، ومن ضمن مناورات العتاد الحي المترافقة مع المرحلة الثالثة، التصعيد الأوسع نطاقاً الذي تمارسه القيادة الإسرائيلية على الجبهة الشمالية، بما في ذلك ضرب أهداف إيرانية مباشرة مع أهداف تخص «حزب الله»، ما يوحي بأن التصعيد في الشمال القصد منه التخفيف من وطأة الفشل في الجنوب، حتى الآن يمكن قول ذلك إلا أن ما يثبت صحته من عدمه، مجريات الأمور على الميدان شمالاً وجنوباً، ومدى ارتفاع وتيرة الحديث عن نبضة أو نبضات باتجاه تبادل الأسرى.
في الفترة الانتقالية نحو المرحلة الثالثة شمالاً وجنوباً، لا جزم في المآلات النهائية، أي: هل تبقى الأمور تحت السيطرة على الجبهتين، أم تفقد السيطرة لمصلحة اتساع الجبهات لتقترب من حافة الحرب الإقليمية؟ هذه وإن كان متحفظاً عليها أميركياً وإيرانياً وإقليمياً وحتى دولياً، إلا أن الميدان له دور في الخلاصات قد يفوق دور السياسيين.