تربطني علاقة رمزية تاريخية بذلك الكرت الأزرق؛ "كرت المؤن"، وكنت في صغري أرافق أحد أفراد أسرتي من إخوتي الكبار، أو الدلّال "العجوري" الذي كان يكلفه أبي باستلام حصتنا الشهرية من مؤن توزعها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة، طحين "زيرو" الأبيض، وسمن، وعدس، وعسل، وتمر، وأشياء أخرى. يمكنكم القول أنني كنت لاجئاً في مسقط رأسي، وفي كل شهر يستخدم موظفو الوكالة "خرّامة" يدوية لتخريم مربع يدل على أننا استلمنا حصتنا لذلك الشهر.
كيف يمكن أن يكون المرء لاجئاً في مسقط رأسه؟ هذا ما حدث، ولدت في عداد اللاجئين، ووقفت على طابور اللاجئين، وحملت "الكرت" الأزرق، وكنت أعرف كل اللاجئين في الخليل، وأكره استخدام مفردة لاجئ لفلسطيني انتقل عام 1948 من الدوايمة أو من بيت جبرين في قضاء الخليل إلى الخليل، لكن المفردة بحد ذاتها ليست سبة، وإنما حقيقة، فمن كان يقيم في فلسطين المحتلة عام 1948 في الفترة ما بين حزيران عام 1946 وحتى أيار 1948، وفقد بيته، ومورد رزقه، استحق بموجب قانون تأسيس وكالة الغوث عام 1949 الحق في حمل ذلك "الكرت الأزرق"، بوصفه لاجئ.
كان أبي يعمل مع دائرة الصحة العامة في فلسطين قبل 1948، وتنقل على الخيل لمعالجة المرضى، أو للتطعيم ضد الكوليرا، أو الملاريا، أو التراخوما، ومرضى رمد العيون، فتنقل ما بين غزة، وعبسان، وبيت نتيف، وبيت جبرين، والمسمية، والدوايمة، وعجور، وخان يونس، وزكريا، ومغلس، وتل الصافي، وذكرين، وجولس، وبربرة، والفالوجة، والمسمية، وعراق المنشية، وعراق سويدان، والمجدل، ووصل إلى قيسارية عندما انتشرت ملاريا عمت مناطق الشمال حول نهر الأردن، وقرب بحيرة طبريا، والمستنقعات المائية، وكان ذلك هو السبب الذي منح أبي الحق في حمل "كرت المؤن".
كان أبي حالماً كحال اللاجئين الذين حملوا معهم مفاتيح بيوتهم، أو دفنوا أدوات الطبخ في بستان البيت، ومنهم من سقى الأزهار في قصص الفخار حتى لا تموت قبل أن يعودوا إليها بعد أسبوع، أكثر أو أقل، ولكنه كان يعتقد أن هذا "الكرت" ضمانة قانونية للاجئين، للعودة أو التعويض، ولذلك وجدته يتفقد "كرت المؤن" كما يتفقد المرء من حين إلى آخر جواز سفره، وقال لي مرة: مقابل كل جواز سفر إسرائيلي، كرت أزرق، قلت كيف؟ قال: "تم إحلال مستوطن إسرائيلي في مكان لاجئ يحمل بطاقة كهذه"، والحقيقة أنني لم أفهم مقصد أبي في تلك الأيام، كنت صغيراً أو غير ناضج بعد.
أدركت الآن مقاصد أبي، إسرائيل تكره "كرت المؤن"، وتكره وكالة الغوث، وفكرة الحديث عن اللاجئين، لأنها ترفض العودة، والاعتراف بحق اللاجئين، تكره حقهم في العيش، وفي البقاء، وعدد حملة بطاقة المؤن، ليسوا 750 ألفاً كما كان عام 1948، بل أصبحوا ملايين، لأن البطاقة تشمل عائلة حاملها، وهي تورث، وتتوالد، ولذلك فإنها تشكل للمحتل غصة في الحلق، وعندما يقول بنيامين نتنياهو أن "الأونروا" جزء من المشكلة، وليس الحل، وأنه حان الوقت لاستبدالها بكيانات أخرى، فإنه يقصد ليس فقط التضييق على حياة اللاجئين، ووقف العون لهم، وإنما تصفية قضية اللاجئين برمتها، وإعدام "كرت المؤن"، وفكرة العودة أو التعويض.
هكذا تعمل إسرائيل، تضرب في الشمال، وتصرخ في الجنوب، تدمر في غزة، وتقصف في خان يونس، وتقتل في غزة، وتعتقل في الضفة، وتهدم البيوت، وتعمل على التهجير، وتبني المستوطنات، وتفرض الضرائب، وتمنع الرعي، وتطلق العنان للمستوطنين، وتواصل الاستيطان، وتشيطن وكالة الغوث، وتشدد الخناق على الفلسطيني في كل اتجاه، والهدف الرئيسي والأخير، تصفية الفلسطيني، وتصفية قضيته، ومحو هويته، وكسب المزيد من الزمن لوصول المشروع الصهيوني إلى نهايته، و"كرت المؤن" مستهدف كحامله، وتسعى إلى قتله في جيب صاحبه.