بلغتُ السبعين: في رثاء عُمْري الفلسطيني

 

أطوي أعوامي السبعين وأنظر بعين الأسى الى ما مضى، والى ما فاتني أن أفعله ولم أفعله في وقته، وبعين الرجاء والأمل للقادم من الأيام، كرمى للأولاد والأحفاد، أولادكم وأحفادكم، وللأجيال الآتية في عالم يحظى فيه الجميع بالحرية والكرامة والعدالة والسلام…

جئت الى هذه الدنيا بعد سنوات ست من النكبة، في بلد عربي بتّ فيه لاجئاً كأنني أجنبي، منذ يومي الأول، حتى الآن وأنا في السبعين، في حين لو وُلدت في بلد أجنبي لكنت مواطناً.

ذلك التمييز يحدث بدعوى صيانة وطنيتي وحفظ قضيتي، كأن الحطّ من مكانتي (وأمثالي) كإنسان، ضرورة “وطنية”، لأنظمة من الأصل ليست فيها مكانة مواطن ولا حقوق مواطنة!

في عامي الحادي عشر، ظهرت الحركة الوطنية الفلسطينية (1965)، وهي ذاتها مستمرة حتى الآن (عمرها 59 عاماً)، وبعدها بعامين، وعمري 13 سنة، شهدت نكبة ثانية مفاجئة (1967)، ثم احداث أيلول/ سبتمبر (1970) في الأردن، وأنا في معسكرات الفدائيين، ومع ذلك ظلت أغنية “طل سلاحي من جراحي يا ثورتنا طل سلاحي… ولا يمكن قوة في الدنيا تنزع من ايدي سلاحي!” بمثابة فولكلور فلسطيني، على رغم كل الأسلحة التي نزعت.

بعدها، اندلعت في لبنان الحرب الأهلية (1976)، التي كانت، (ولا تزال) بمثابة نكبة أخرى للبنانيين والفلسطينيين، استثمر فيها النظام السوري، باسم الوطنية والقومية، وبعده النظام الإيراني باسم المقاومة وفلسطين، إلى يومنا هذا، في حين كانت خسارة صافية للبنانيين، وللفلسطينيين، ولحركتهم الوطنية، التي أخرجت من لبنان في الاجتياح الإسرائيلي (1982).

في الغضون، وجدتني كغيري أنصرف عن استعدادي لامتحانات شهادة “البكالوريا” للاستجابة لنداء الدفاع عن الثورة الفلسطينية في لبنان (1974)، وهذا تكرر في العام 1982 لمواجهة الاجتياح الاسرائيلي للبنان، وكان ولدي الثاني سلام (بعد ابنتي لينا) بعمر شهرين أو ثلاثة، ذلك أن حماسة الشباب والوعي السائد في تلك الفترة أخذاني كما أخذا غيري.

تساؤلات كثيرة ولا إجابات!

السؤال السياسي والأخلاقي الآن: هل كان ذلك المسار محتوماً؟ أو هل أن صعود الحركة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير يغطي على مأساة اللبنانيين والفلسطينيين في لبنان، الناجمة عن الاعتداءات الإسرائيلية، وعن تفجر الحرب الأهلية، وتالياً ضياع لبنان في ظل الهيمنة السورية ثم الإيرانية؟ أو هل يبررها؟ ثم ما الذي فعلته الحركة الوطنية الفلسطينية في لبنان بعدما حققت ما حققته في منتصف السبعينات، العشرة أعوام الأولى من قيامها؟ ما الذي أضافته منذ 50 عاماً سوى تحوّلها الى سلطة في لبنان (وبعدها سلطتين في فلسطين)، مع ميليشيات وأجهزة وفي ظل الهيمنة السورية التي حولت لبنان الى ورقة فلسطينية أو سورية، في حين كان يمكن الفلسطينيين تدارك أو تفويت ما حصل بمراجعة لطريقهم وبناهم وخطاباتهم بعدما انتزعوا اعتراف العالم بهم وبقضيتهم أواسط السبعينات؟

في هذه الحقبة، أي بعد التداعيات الناجمة عن أفول الحركة الوطنية الفلسطينية، في الخارج، والانقسام الحاصل، وقيام الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى، وجدت نفسي خارج تلك الحركة (1988)، مع قناعة باتت تترسخ وتتعزز بأن تلك الحركة قدمت ما عليها، ولم يعد لديها ما تضيفه، وأن استمرارها، على النحو وأشكال العمل ذاتها، لم يعد مجدياً، إذ بات يتغذى من مصادر خارجية، ومن عدم قدرة الفلسطينيين في تشتتهم، وضعف إمكاناتهم، وخضوعهم لسلطات مختلفة، على توليد البديل. ومنذ ذلك الحين، بدأت سيرة أو صفحة أخرى، ككاتب، أتوخى قول الحقيقة بصراحة، وبمسؤولية وطنية وأخلاقية، في معزل عن أية انحيازات.

بعد ذلك، حصلت كارثة الاحتلال العراقي للكويت، التي جلبت الغزو الأميركي الى العراق (2003)، ضمن عوامل أخرى، وكانت تلك نكبة، وصدمة مؤثرة ومؤلمة، بتداعيات خطيرة، ليس بسبب سقوط نظام صدام، وإنما لاستعصاء التغيير من الداخل في البلدان العربية، وبسبب الشبهات التي تحيط بالتدخلات الخارجية، إذ نجم عن ذلك تسليم الولايات المتحدة العراق، جملة وتفصيلاً، أو على بياض، لإيران، عبر أذرعها الميليشياوية الطائفية، وهو ما عزز نفوذ النظام الإيراني في المشرق العربي، الذي بات من طهران الى لبنان مروراً بسوريا والعراق.

في أثناء ذلك، حصل اتفاق أوسلو (1993) الذي عبر عن نكوص الحركة الوطنية الفلسطينية في المعنى والمبنى، وأفولها، وتحوّلها من حركة تحرر وطني الى سلطة على شعبها تحت سلطة الاحتلال، مع التداعيات الناجمة عن ذلك على صعيد الشعب والقضية والحركة الوطنية، التي بدا أنها تأكل من منجزاتها وتبدد تضحياتها، مع استعصاء إمكانات تطورها أو تجديد روحها وبناها، بخاصة في ظل الانقسام الحاصل، وضمور التيار الوطني لصالح تيار إسلامي، شكل صفحة جديدة في العمل الفلسطيني.

مع اندلاع الثورات العربية من تونس ومصر ثم من سوريا (مع بلدان أخرى)، بدا أن ثمة أملاً بالحرية والكرامة والعدالة للناس في هذه المنطقة من العالم، لكن ذلك الأمل ما لبث أن انطفأ أو أُجهض، من ضعف الحوامل الذاتية وغلبة التأثيرات والمداخلات الخارجية.

نكبة جديدة أقسى

هكذا وجدت نفسي، بعد الستين من عمري، إزاء نكبة أخرى مهولة في سوريا، ظللت أعتبرها أكبر وأقسى من نكبة الفلسطينيين الأولى (1948)، بكل المقاييس، وهي نكبة لم أنج منها، كغيري من السوريين، والسوريين – الفلسطينيين، حتى الآن، بأثمانها البشرية والسياسية والمادية والأخلاقية، لا سيما أن هذه النكبة قوبلت بإنكار أو بتجاهل أو بلا مبالاة فظيعة، ومؤلمة، في الرأي العام العربي، وضمنه قطاعات من الفلسطينيين، الذين يفترض أنهم الأكثر حساسية لقضايا الحرية والكرامة والعدالة.

الآن، وقد أنهيت الـ 70 سنة من عمر حفل بالمآسي وخيبات الأمل، وكان مليئاً بالأحلام، والأوهام، أجدني إزاء نكبة مهولة أخرى، وغير مسبوقة، في حرب إبادة تشنها إسرائيل منذ 120 يوماً ضد الفلسطينيين في غزة، أمام سمع العالم وبصره، والأنظمة العربية تتفرج وتتوسط وتطبل.

في السبعين، هذه حياة مليئة وصاخبة، ومؤلمة، ومليئة بالخيبات والخسارات والنكبات… في هذا العمر ما لديّ هم أحبائي، أولادي: لينا وسلام ونوار وعبود، وأحفادي: لارا وجنين وماجد وجود وكرم وليث وتيم، وعلى الطريق. أيضاً، لدي، منذ بدأت الكتابة (أواخر الثمانينات) 11 كتاباً، أعتز بينها بشكل خاص بكتبي في نقد التجربة الوطنية الفلسطينية، وأهمها عندي كتابي: “نقاش السلاح… قراءة في إشكاليات التجربة العسكرية الفلسطينية”، ثم آخر كتاب أصدرته وعنوانه: “الصدع الكبير… محنة السياسة والأيديولوجيا والسلطة في اختبارات الربيع العربي”… أيضاً ثمة عشرات الدراسات، في مجلات ضمنها شؤون فلسطينية وشؤون عربية والمستقبل العربي، والفكر الاستراتيجي العربي، والسياسة الدولية، وشؤون الأوسط ، والأرض، ومئات المقالات الأسبوعية، في صحف عربية: الحياة والنهار والمستقبل ودرج والنهار العربي ومجلة المجلة والبيان والوطن والشرق الأوسط، والأيام، والسفير. 

ومع أولادي، وأحفادي، وكتبي، أعتز بالأصدقاء، رفاق تلك التجربة الثرية والعسيرة والمجهضة، رفاق الآلام، والآمال، والأوهام والأحلام، وهم كثر، أتذكر من ذهبوا بكل عرفان ومحبة، وأتذكر بكل مودة وتقدير الذين ما زالوا يكابدون في هذه الحياة في أصقاع الدنيا، وهم على الحلم والأمل والصدقية ذاتها.

أطوي أعوامي السبعين وأنظر بعين الأسى الى ما مضى، والى ما فاتني أن أفعله ولم أفعله في وقته، وبعين الرجاء والأمل للقادم من الأيام، كرمى للأولاد والأحفاد، أولادكم وأحفادكم، وللأجيال الآتية في عالم يحظى فيه الجميع بالحرية والكرامة والعدالة والسلام… وداعاً لأيام مضت، بحلوها ومرها، وداعاً لسبعين عاماً انقضت، بخساراتها ونكباتها، وبأحلامها وآمالها.

 

Loading...