كتب واصدارات

ســــيرة القيـد والقـلم | نبهان خريشة الحلقة الثانية

العبور الثاني - البدايات (2)

 

مكبرات الصوت تنادي على جميع من في القرية بعربية ركيكة، بأن عليهم بالتوجه الى باحة المسجد الذي يتوسطها، وسرعان ما غصت بالمئات، والجنود يحيطون بنا من كل جانب، وآخرون يعتلون أسطح المنازل المتداعية تحت وطأة الزمن، يحملون أسلحة أصغر من البندقية وأكبر من المسدس، وهو سلاح عرفت لاحقا أنه "العوزي"، وهو مسدس رشاش نسخه ضابط إسرائيلي يدعى "أوزيل جاك"، عن سلاح تشيكي في عام 1950.   

في يوم نشوب الحرب في الخامس من حزيران، كان والدي وأخي الذي يكبرني بثلاثة أعوام في القدس، أما الأخ الأكبر الذي كان من المقرر أن يتقدم لامتحان الثانوية العامة، بعد يومين من بدء المعارك، كان قد فر مع أقرانه باتجاه جبال قريتي "شوفه" و"كفر اللبد"، إلى الشرق من قريتنا، خشية مما قد يحصل من مذابح، كتلك التي وقعت قبل 19 عاما في فلسطين المحتلة، في بلدات الشيخ ودير ياسين وأبو شوشة، والطنطورة وقبية وقلقيلية وكفر قاسم، وغيرها من البلدات والمدن.. وبغياب والدي وأخوَيْ الأكبر مني أصبحت أنا المسؤول عن والدتي وأخي الصغير وأُختَيَ الأصغر مني.

انتبهت أختي التي تصغرني بثلاثة أعوام إلى رجل ممدداً فسألتني "ما به؟”. التفت إلى حيث أشارت، فإذا بجثة رجل يهاجمها ذباب أزرق كبير ويمتص ما تبقى من الدم فيها بنهم!

- إنه نائم!

- لماذا لا يبعد الذباب عنه؟

- إنه مستغرق في النوم!

إنها جثة محمد منصور، الذي قاوم زحف قوات الاحتلال ببندقية أوتوماتيكية من طراز "كارلو غوستاف"، في عملية انتحارية بامتياز، لعلمه بأنه سيقتل إذا ألقي القبض عليه، فقد كان مطلوباً لإسرائيل، لتسلله عبر الحدود قبل عام 67، وشنه عشرات الهجمات على الكيبوتسات والمستوطنات الإسرائيلية.   

بعد نحو ساعة على تجمع من بقي في القرية، من نساء ورجال وأطفال في ساحة المسجد، حضرت عشرات حافلات شركة "إيغد" الاسرائيلية، التي تحمل كتابات بلغة لم أعهد حروفها من قبل، وتحمل صور اعلانات على جنباتها، وأجبرنا الجنود على الصعود إليها، وما من أحد منا يعرف إلى أين وجهتها؟ وما هو مصيرنا؟

وبعد سفر أقل من ساعة، أفرغت الحافلات حمولاتها من أهالي قريتنا، ومدن وقرى ومخيمات مجاورة، يحملون صرراً من أغراض جمعوها على عجل، في سهل يتوسط مخيمي بلاطة وعسكر شرق نابلس.. إنه يوم النشر!! الحافلات الإسرائيلية استمرت في قذف حمولاتها حتى ساعات مساء ذلك اليوم!!    

لم يتوفر للناس ما يأكلونه، سوى ما تقدم به سكان مخيمي بلاطة وعسكر وقرى سالم وعزموط، القريبة من السهل المكتظ بالبشر الخائفين من المجهول الآتي، إلا أن البعض ممن "وفروا قرشهم الأبيض ليومهم الاسود"، ومنهم والدتي، تمكنوا من شراء بعض الاحتياجات البسيطة من حوانيت في المنطقة..

بات جميع من هُجِروا، يعلمون بأن المحطة النهائية لترحيلهم القسري، هي الجانب الشرقي لنهر الاردن، رغم أن الإسرائيليين لم يبلغوا أحداً بخططهم، إلا أنه ليس مطلوبا أن تكون ذكياً لتدرك أن الوجهة النهائية هي الأردن، طالما أنك تسافر باتجاه الشرق!!                     

بعد ثلاثة أيام من المبيت في العراء، حضرت عشرات الحافلات الإسرائيلية مجدداً، وقامت بتحميلنا مجدداً، وبدلاً من التوجه إلى الشرق توجهت إلى الغرب.

"رمينا مفتاح البيت عندما طردونا.. كيف بدنا ندخل؟؟ لا بد من خلع الباب!" قالت والدتي

"لا.. لا داعي لخلع الباب.. المفتاح الذي طلبت مني أن أرميه، لم يزل معي، لم أرمه! لقد فكرت أن أبقيه تذكاراً لأولادي!!" قلت لها.     

لماذا أعادونا؟

بقي هذا السؤال يراودني لفترة طويلة دون أن أجد إجابة له، إلى أن قرأت بعد نحو ثلاثة عقود على تلك الواقعة، شهادة لحاكم عسكري بلدة عنبتا، في الأيام الأولى لحرب الـ 67 "رعنان لوريا"، والتي نشرها الصحفي جدعون ليفي في صحيفة هآرتس، بعنوان "شاحم أمر بالطرد وأنا رفضت الاوامر"، تحدث فيها عن محاولة تهجير ألاف المدنيين الفلسطينيين، من المدن والمخيمات والقرى الفلسطينية المحاذية للخط الأخضر منها مدينتي طولكرم وقلقيلية.  

ليفي أورد في مقالته شهادة للضابط رعنان لوريا: "رأيت عشرات الحافلات التابعة لشركتي إيجد ودان، تتجمع لحمل السكان.. جاءني نائب قائد الكتيبة "موتكي طحان"، وضابط آخر اسمه "شلومو غونين"، وطلبا مني تحميل السكان في الباصات لنقلهم إلى الجانب الآخر من نهر الأردن". ويتابع رعنان "نظرت من حولي فرأيت عائلات تخرج إلى الشارع تحمل فرشات، وأطفالاً ينتظرون على الارصفة..

قلت لـ موتكي "لست قادراً على القيام بذلك!! "

- عليك أن تحملهم جميعاً بالباصات!

- أنت لا تفهمني.. ليس بإمكاني القيام بذلك!!  

- ما تقوم به هو رفض للأوامر في وقت القتال!

ثار دمي فقد كان لدي في حينه ثلاثة أطفال في البيت.. كيف لي أن أحمل أطفالاً في سن أطفالي بباصات وألقي بهم وراء النهر؟!

"دعك من هذا اللغو.. أنا بالتأكيد أرفض الانصياع لهذا الأمر" قلت لموتكي!!

 تدخل الضابط شلومو غونن قائلا "ما المشكلة؟ أنا سأقوم بمعالجة الأمر.. سأحملهم في الباصات.. رعنان له مشاغل أخرى كحاكم عسكري!!"

لم تجر محاكمة لي لرفضي الأوامر، وإنما جرى تسريحي من الخدمة في اليوم التالي.. واستمرت عمليات التهجير، إذ جرى تحميل أكثر من 7 ألاف من سكان منطقتي طولكرم وقلقيلية في الباصات، تم إنزال بعضهم شرق نابلس وآخرين وصلوا إلى نهر الأردن.. اتصلت بسفارتيْ أمريكا وفرنسا في تل أبيب، وأخبرتهما بما يجري، وعلى الفور تدخلت الدولتان لدى إسرائيل، وطلبتا منها وقف تهجير المدنيين وإعادة من جرى نقلهم وهذا ما حدث فعلا "

 

Loading...