مكان البطل
إلى روح البطل إبراهيم أبو دية
قلة أولئك الذين كانوا يعلمون أن العاصفة وشيكة.. وستأتي مزمجرة عنيدة طاحنة.. أما الكثرة.. فقد استسلموا لراحة لا لذة فيها فهم يعلمون تماماً أن الراحة سيعقبها تعب، أي تعب.. وينظر أبراهيم إلى ساعته ويسحب نفساً أخيرا من لفافته ويلقيها ثم يدوسها بغل تحت قدمه فتنسحق، وينظر في حطامها.. أشلاء صفراء تشوبها بقع سوداء ويتمتم: إنها النهاية.. النهاية التي لا بد منها. ولكن لمن؟!..
ويشعل لفافة جديدة وحطام سابقتها لا زال في عينيه، حطام.. حطام.. إن الحطام يلف كل شيء ويدور بعينيه فيما حوله.. ولا جديد هناك ولا جديد هناك.. إلا هذا الهدوء البغيض.
إنه يكره الهدوء.. يكرهه حتى العظام.. وتصدم عيناه الصحيفة الملقاة أمامه على الطاولة، ويقرأ العنوان ذا الحروف الكبيرة (القدس تستسلم (حروف كبيرة في حمرة الدم.. وبحروف سوداء أصغر.. (عصابات العدو تموت عطشاً) ويمسك الجريدة بكلتا يديه لتنقبضا بقوة وجنون على الصحيفة. ويتناثر حطام الصحيفة ليلف قدميه ويغمغم: القدس تستسلم.. هؤلاء المغفلون؟! ثم يصرخ بأعلى صوته:
حسن.. حسن. ويدخل حسن بجسده النحيل وبعيون مغبشة أرهقها سهر طويل.
نعم.. سيدي.
هل من جديد؟!.
- حتى الآن.. لا جديد
- حسناً.
ويعود إبراهيم إلى ضياعه ووحدته ويشعر بالانسحاق في كل ذاته.. ودوار أصفر عنيف يدور به في دنيا فارغة.. ويخرج من الغرفة ويصعد على درجات ضيقة ليمر بجنوده كل في ركن يحتضن سلاحه، وهدوء وصمت مزعجين يخيمان على المكان.. يمر بهم دون أن يحييهم فيستغربون.. ويصعد إلى أعلى حتى يصل إلى أعلى طابق في البناء فيجد (جبر (قابعاً وراء أكياس الرمل ومدفعه الرشاش مصوب إلى كل القدس الجديدة ويلتفت جبر ويقول:
- حسناً سيدي كنت سأتصل بك.. يبدو أن الهجوم بات وشيكاً.. تحركات واسعة وأعداد كبيرة كلها تحيط بنا.. وأرجو ألا يتمكنوا من قطع الطريق الموصل للقيادة هذا وهو يشير حوله لا ينظر ابراهيم حيث يشير جبر بل يتسلقه بنظراته... إنه يعجب باستمرار من شدة سواد بشرة جبر ولمعانها. ثم هذا البريق الغريب الذي يتطاير دوماً من عينيه... لكن جبر هو أحب الجنود إليه وأقربهم إلى نفسه.. ويتمتم إبراهيم وهو يدور بعينيه فيما حوله من فضاء فارغ من الحركة مقنع بسكون رهيب:
- هؤلاء المجانين. إنها المرة الرابعة التي يهاجمون فيها مواقعنا.. فلا ينالون إلا الهزيمة والخسارة.. فلم هذا السخف... اسمع يا جبر.. الساعة الآن تقارب السادسة مساءً، نم أنت الآن على أن تتولى الحراسة بعد منتصف الليل سأرسل عبد الرحمن ليشغل مركزك.
يهبط إبراهيم على الدرجات الملتوية ماراً من جديد بجنوده فيطلب من بعضهم الهبوط إلى المستودع وجلب كل الذخيرة ثم يستدعي عبد الرحمن:
اسمع عبد الرحمن.. أريد حراسة قوية هذه الليلة الملاعين يبيتون هجوماً مركزاً. لا أدري متى يبدأ بالضبط المهم أنه وشيك الوقوع.. استلم مكان جبر الآن ووزع كل الذخيرة على الرجال.
ويعود إبراهيم إلى غرفته فيجد إشارة من القيادة تطلب معلومات عن حشود العدو فيشير بيده إلى حسن جندي اللاسلكي.. لا جديد.. ويترك حسن الغرفة مخلفاً وراءه فراغاً وضياعاً، عادا ليلفا إبراهيم من جديد.. ويحاول إبراهيم أن يبدد السكون المحيط به وأن يتخلص من الضياع الذي يغرقه فيشعل لفافة يسحب منها نفساً طويلاً يحاول استبقاءه في صدره أطول مدة ممكنة ثم ينفثه فيخرج على شكل خيط رفيع يجرح الهواء ثم يذوب فيه فكأنه لم يكن، يتمتم ويفكر:
الليلة.. غداً.. أو بعد غد سنذوب هنا في آتون المعركة.. فنصير إلى دخان يتلاشى ويتلاشى ولا شيء غير التلاشي ثم النسيان وتهاجمه فجأة الذكريات.. ذكريات كلها مرة مرارة واقعه.. زوجته الجميلة العاقر بابتسامتها الحزينة.. وأملها المطموس.. قريته الصغيرة البطلة التي رعته بطيبتها وغذته ببساطتها فشب فيها لتتفتح عيناه على فقر مجرم يلف قريته.. وعبودية واستغلال يطبقان على كل مقدرات بلده ووطنه... ووجوه حمراء قذرة تتحكم بمصيره وبمصير كل من في بلده وخيانات ذوي النفوس المريضة والقلوب المتحجرة.. يسهلون للأجنبي حكم وطنه فيتجسسون ويسمسرون دون رادع أو وازع، لولا هؤلاء وأولئك لما كان هنا في القطمون لا هو ولا جبر ولا عبد الرحمن ولا آلاف غيرهم يقبعون ليل نهار وراء الحديد البارد الذي ينشر الموت إذا دبت فيه الحياة ويصحو على لذعة اللفافة لأنامله فيلقيها مفكراً (إنها النار.. النار التي تأكل الحياة).
ويخرج ليتفقد رجاله فيمر بهم وقد تكومت الذخيرة على يمين كل منهم فيجيبهم هاشاً باشاً مشجعاً وقد شعر الآن بأنه أصبح إنساناً جديداً يتقد حماساً ويمتليء نشاطاً.. ويصعد إلى أعلى بناية (الدير) فيجد عبد الرحمن وبجانبه جبر كل يقبع خلف مدفعه الرشاش فيبادر جبراً قائلا: المفروض أن تكون نائما الآن يا جبر.
- عفوا لم أتمكن من النوم فصعدت لأسامر عبد الرحمن.
- وهل من جديد؟
- سمعت منذ قليل صوتاً أقوى بكثير من صوت السيارة وأغلب الظن أنهم سيستعينون بالدبابات في هذه المرة.
- دبابات.. هذه مصيبة.. لا مدافع مضادة للدبابات لدينا.. ثم من أين أتوا بالدبابات.. لكن لا تنسوا أن الشارع الرئيسي المؤدي إلى هنا مليء بالحواجز المنيعة.. فإذا تمكنوا من الوصول إلى الحواجز ونسفها كانت نهايتنا.
سأتكفل أنا بمنطقة الحواجز ولن يصلها أحد.
وأنت يا عبد الرحمن تساند جبر بمدفعك ولا تغادر مكانك بجواره الا في حالة الضرورة القصوى.
يهبط إبراهيم الدرجة الأولى.. ثم الثانية... لينطلق مدفع جبر مزمجراً غاضباً منذراً ببدء المعركة.. فيسارع بالهبوط وقد بدأت حرارة الحياة تسري في برودة الحديد.. الذي يبصق النار التي لا ترحم، ويتصل إبراهيم بالقيادة مبلغاً أن الهجوم عادي حتى الآن.. ويعود إلى الصعود ويقترب من جبر الذي أطبق بيده السوداء على الحديد الأسود وكل نار السواد موجهة إلى منطقة الحواجز ويصيح عبد الرحمن:
- إنهم كثيرون.. كثيرون جداً وكلهم يحاولون الوصول إلى منطقة الحواجز.
وتمر ساعات ثلاث والمعركة على أشدها وإبراهيم يتجول بين الرجال، لقد فقد اثنين حتى الآن وبقي ثمانية وستون.. إنه مستعد لأن يحارب معهم شهراً... عاماً.. كل الزمن على أن تبقى منطقة الحواجز سليمة.. ويهبط ليرسل تقريراً جديداً عن سير المعركة، ويعود ليقف بجوار جبر وعبد الرحمن وهما ينشران الموت في منطقة الحواجز.. وينظر إلى جبر والنار تنطلق من سواد مدفعه.. إن السواد إبن النار وجبر ابنها وسيحرق كل من يقترب من الحواجز.. ويذوب سواد الليل في أنفاس النهار الجديد.. وينظر إبراهيم حوله.. فيرى الحطام الحطام في كل مكان مئات الجثث مبعثرة حول الدير وكلها في منطقة الحواجز.. منطقة جبر.. وخلف الحواجز يرى المصيبة.. الدبابات وقد بدأت تتحرك لتأخذ دورها في المعركة.
ومع ارتفاع الشمس في كبد السماء يرتفع عدد الضحايا من رجال إبراهيم حتى وصل الرقم إلى اثنين وثلاثين ويقدر ابراهيم وقد كثر تساقط قنابل (الهاون) على الدير أن الساعات القلائل القادمة ستحمل الموت للجميع.. ويتصل بالقيادة باسطاً سير المعركة فيأتي الرد مذهلاً موجزاً:
انسحبوا.. وفوراً ..!
بمنتهى البساطة تتخلى القيادة عن القطمون.. ويصعد إلى أعلى الدير. ليجد عبد الرحمن وقد أصيب بإصابة قاتلة وجبر بإصابة في ساقه ولكنه لا زال في أوج قوته ويبادره جبر قائلا: -
سيدي لا فائدة.. انسحبوا وسأحميكم.
ويتمتم إبراهيم:
وأنت أيضا يا جبر.. تريدنا أن ننسحب.
ويجيب جبر دون أن يلتفت:
هذا واقع المعركة... الدبابات نسفت قسماً كبيراً من منطقة الحواجز، إليَّ بصندوق قنابل يدوية وانسحبوا هذا مكاني ولن أتخلى عنه.. ولن أتمكن من الانسحاب معكم فساقي مهشمة وسأقاتل حتى النهاية.. أوصيك بأولادي..
في السنوات القليلة التي تلت موت جبر.. والتي قضاها إبراهيم طريح الفراش في المستشفى بعد إصابته في إحدى المعارك كان يستدعي دوما سالم وإخوته ليذكرهم بوالدهم جبر البطل الذي منح الحياة لزملائه نظير موته.
كتبت في عام 1960