هل كان يرفض فتح المعبر؟

 

ارتبطت عبارة "مقطوع راسه"، بحذف الهمزة من على رأس الألف، بسمك "البوري" الذي كان يجلبه "البايض" من غزة إلى الخليل. و"البايض" اسم عائلة تعود أصولها إلى الفالوجة وغزة، لجأ بعض أفرادها إلى الخليل، وسكنوا في قلبها، وافتتح أحدهم محلاً لتجارة الأسماك في حارة القزازين العريقة، قبالة ملحمة "أبو طالب" غيث، التي يبيع فيها لحم "القاعود"، وهي مفردة تدل على صغار الجمال، وأما طالب فهو مناضل حُكم عليه بمئات السنين، وتم تحريره في صفقة الأسرى عام 1985 التي جرى فيها التفاوض لمدة ستة أشهر بين إسرائيل برئاسة شمعون بيريز، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، وطالب هو أحد أبطال روايتي "في حضرة إبراهيم"، وكان صديقاً حميماً لهارون الذي خرج من البلاد، ولم تسمح له قوات الاحتلال بالعودة.

الشاهد في الأمر أن عبارة "مقطوع راسه"، ارتبطت في تكويني الذهني بسمك البايض الذي كان يأتينا في السبعينات من القرن الماضي من بحر غزة. لم أكن أتخيل أن العبارة ستعني الغزي نفسه، وأن "المقطوع راسه" سيكون صائد السمك، وليس سمك بحره، وأستمع إلى شاهد قصف بيت في حي الزوايدة، خرج حياً بعد أن انتشله شباب الحارة من تحت الأنقاض، هو وابنتيه، فيما استشهد عددٌ من أطفال ونساء في مربع بيوت استهدفتها الصواريخ الإسرائيلية، سئل الرجل عن الشهداء، قال: في هذا البيت، سقطت امرأة، وأطفالها، وحماتها، ورجل آخر "مقطوع راسه"، ولم نتمكن من التعرف عليه، لأننا لم نجد غير جسده دون رأس.

حلم الفلسطيني في غزة أن يستشهد دون قطع رأسه، ودون أن يتقطع جسده إلى أشلاء، ودون أن تأكله الكلاب الضالة، ودون أن يتحلل جسده على قارعة الطريق، ليس من المهم أن يُصلّى عليه، ستصلي عليه ملائكة السماء، عليه وعليها. المهم أن يلاقي المرء ربه قطعة واحدة، لا مقطوع الرأس كسمك البايض، ولا مقطعاً أشلاء كقاعود أبو طالب، ولا مهروساً تحت جنازير الدبابات التي لا تتردد في السير على أجساد البشر دون أدنى إنسانية.

وأما عبارة "في حَد هان"؛ تلك التي تنادي من يُفترض أنهم ما زالوا أحياءً تحت الأنقاض، فقد ارتبطت ذهنياً وحتى الأبد بأهل غزة، وغيرها: "أنا من داري مش طالعة"، و"كَبروا يا جماعة"، و"كله فدا فلسطين"، و"بيستاهل الله"، كلها عبارات ستعيش في الذاكرة الفلسطينية التي ارتبطت بها مفردات "مجزرة"، و"مذبحة"، و"إبادة"، و"تهجير"، و"مخيم"، و"لاجئ"، و"نازح"، و"أسير"، و"أسيرة محررة"، وجرائم مكررة منذ "دير ياسين"، و"الطنطورة"، و"الدوايمة"، و"تل الزعتر" و"صبرا"، و"شاتيلا" وغيرها كثير.

ثلاثون ألفاً ارتقوا في غزة خلال العدوان، ومثلهم ولدتهم النساء تحت القصف، لا خوف على نسلنا، ولا على أصلنا، ولا على مستقبلنا، التاريخ في الماضي سار لصالح المحتل، والمستقبل سيسير لصالح صاحب الأرض، و"المقطوع راسه"، لن يذهب رأسه سدى، والدماء ليست ماء، ، كل ما فعله المحتل من دمار، لم يمس إلا القشرة الأرضية، وأما الأرض، بجذور أشجارها، وعمق أنفاقها، وشياطينها، وقناصيها، وولاّداتها، وأسودها، وجبروتها، فإنها باقية، متجذرة، صامدة، وها هو الرئيس بايدن يفلح في إقناع الرئيس السيسي بفتح معبر رفح، هل كان يرفض؟ ويقنع نتنياهو بإدخال المساعدات، لعل ابن غزة يجد بعض الحق في أكل كسرة خبز، أو شربة ماء، دون أن يُقطع رأسه، ولعله يجد لابنته المصابة ما يكفكف جراحها.

الذاكرة التي تحتفظ بسمكة مقطوعة الرأس، لن تُسقط شهيدة أو شهيداً مقطوع الرأس من تلافيف الذاكرة، وغبي من يعتقد أن هذه التضحيات ستذهب سدى، غبي من يعتقد أن ما ارتكبته إسرائيل من مجازر، سيكون بلا ثمن، والبدوي أخذ بثأره بعد أربعين عاماً، وقال: لعلني استعجلت، لكنه أخذ بثأره، والفلسطيني لن يقبل أن يعيش عمره ذليلاً، ولن يقبل أن يموت بلا ثمن، وما تفعله إسرائيل، ذخيرة انتصار للفلسطيني، وذخيرة عودة، وذخيرة انهيار هذا الكيان، والذين أُجبروا على خلع ملابسهم، سيخلع نسلهم ملابس جنود الاحتلال، ويعرّون الكيان الذي عرته جرائمه، وجعلته منبوذاً محتقراً لدى كافة شعوب الأرض، وإسرائيل دولة جهل، والجاهل عدو نفسه، والمسألة مسألة وقت، والوقت كما قلت اعتدل، وعدّل من طريق مسيره، وأخذ يسير إلى جانب الفلسطيني.

 

Loading...