نعيش الآن في الشهر الرابع من تقويم "طوفان الأقصى"!! لنسمع تصريح للرئيس جو بايدن يقول: "إن إسرائيل بالغت في رد فعلها على حماس".!! وتصريح لوزير خارجيته يؤكد على أن بلاده "ملتزمة بتحقيق السلام والأمن الدائمين" ويتابع أن إدارته "تسعى لدمج إسرائيل في المنطقة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنباً إلى جنب في سلام مع إسرائيل" هذا الكلام الجميل في جوهره وصياغته يمكن تنسيبهُ إلى "مبادرة السلام العربية". وقد تم إحياءها مجدداً في القمة الثنائية العربية والإسلامية قبل شهرين ونيف.
كيف حصل هذا التحول في السياسة الأمريكية؟ بعدما استطاع العقل الإسرائيلي، إقناع واشنطن لعقد من الزمن، بأن خيار الدولتين قد تجاوزه الواقع الجغرافي في الضفة الغربية والواقع السياسي في غزة وأن أقصى ما يمكن منحه للفلسطيني هو كيان "أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي".
فهل يعود هذا التحول لاعتراض الرأي العام الغربي فقط أم على صلة باستخلاصات سياسية مصلحية في عمق المؤسسة الأميركية، حيث يغوص صناع القرار فيها لإعادة تشكيل النظام العالمي وفق استراتيجيات جديدة؟
من المعروف أن الشرق الأوسط الكبير، فيه ستة قوى إقليمية منها أربعة غير عربية (إسرائيل، أثيوبيا، تركيا، إيران).
وأن المنطقة العربية تشهد صراع مصالح إقليمية شرس حيث تتحالف وتتقاطع وتتخاصم القوى الإقليمية الأربعة على هدفين مركزيين، هما تحقيق أقصى ما يمكن الوصول إليه من الثروات العربية وإنتاج أفضل علاقة مع القطب الأميركي الأوحد لنيل الاعتراف بدورهم وحصصهم ونفوذهم.
هنا لا بد من التأمل قليلاً والقول. أن لحظة "طوفان الأقصى" لحظة فارقة انتجت حالة كشف المستور عند اللاعبين الإقليميين الستة ولدى القطب المهيمن الأوحد، وأعادت تلك اللحظة تظهير ميزان القوى عارياً، بعيداً عن الأيديولوجيا الدينية والقومية واليسارية. بأشكالها المتطرفة كما عبرت عن نفسها منذ سقوط البرجين في نيويورك اثناء هجوم 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001.
والمستور هنا، هو هشاشة منظومة الأمن الإقليمي، ومشكلات فائض القوة والتماسك الداخلي عند القوى الإقليمية وأولهم إسرائيل وكذلك أوهام دعاة العنف والتطرف واعتقادهم بأنهم قادرين على فرض أجنداتهم على الآخرين بمزيد من الاستعلاء القومي والعنصري.
إنها لحظة سقوط وهم القوة والعنف عند حماس وإسرائيل معاً، حيث قال الواقع كلمته بأن البحصة ممكن أن تكسر الجرة احيانا نتيجة حركة مفاجئة. وهنا تبلور السؤال الكبير كيف حصل ذلك ولماذا؟!!
كيف حصل ذلك صار معروف نسبياً، أما سؤال لماذا، فهو سؤال اشكالي، يفتح مساحة سجال واسعة لكنها ضرورية.. وربما تصلح بداية السجال بالعودة إلى إعلان الرئيس جورج بوش الإبن عزمه على اجتثاث الإرهاب في العالم ومن يومها ارتفع منسوب الفوضى في أركان المعمورة. ليأتي من بعده المنقذ الرئيس باراك أوباما الذي سرعان ما بطل سحره مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، ووضع ملف حل الدولتين على رف لا عودة إليه. لكن سحر أوباما نجح مرة مع إيران وبرنامجها النووي وفشل مرة أخرى مع حركة الاخوان المسلمين في أكثر من بلد عربي.
وإذا استطاع ترمب سرقة أربعة سنوات من الإدارة الأوبامية، إلا أن منطقه الخاص المستعار من نتنياهو حول السلام الاقتصادي فشل أيضاً، في تمرير صفة القرن كاملة لتعود الإدارة الأوبامية برئاسة بايدن تسعى لإنتاج نسخة جديدة من الاتفاق النووي الإيراني مع التوكيد على نبذ المملكة العربية السعودية وعقوبة جمهورية مصر العربية وليست الاخوانية.
لكنها فشلت ايضا في حساب المصالح مع الطرفين، وانحصر نجاح سياسة هذه الادارة حتى الآن في الاستثمار بلعبة التوازنات في الأزمات المفتوحة على مثل (أوكرانيا، اليمن، سوريا، ليبيا وغيرها).
بينما استطاعت إيران بفضل هذه السياسة الوصول إلى تعظيم نفوذها في أربع دول عربية، بأثمان رخيصة نسبياً. وبدأت تتطلع من قطاع غزة لإنجاز قفزة تمكنها من الحضور في الضفة الغربية تحت الشعار الأثير على قلب المرشد الإيراني شعارضرورة تسليح الضفة الغربية بكل الوسائل حتى لو أدى هذا الى الاشتباك المسلح مع المملكة الأردنية.
أنه الشعار الذي يخفي مطلب إسقاط السلطة الفلسطينية وتفكيك الكيان السياسي الفلسطيني المعترف به كحامل للشرعية الوطنية وتراثها النضالي.. والمعبر عن أهداف وخيارات صاغها الشعب الفلسطيني في انتفاضة الحجارة.
مع تلك المراجعة للسياسات الأميركية والإقليمية نلحظ تقدم الموقف العربي المشترك من خانة الدفاع السلبي وإثبات البراءة من تهمة الإرهاب الى خانة التوازن وحماية الدولة الوطنية ثم إلى خانة الحضور الإيجابي والتحديث السياسي والاقتصادي. وهنا لا بد من إعادة قراءة وتحليل مشروع السلام العربي في ضوء التحديث الجذري لمفهوم العروبة الصادر في "إعلان الرياض" (آذار 2007) حيث جاء فيه (..إعتبار أن العروبة ليست مفهوماً عرقياً عنصرياً، بل هي هوية ثقافية موحدة، تلعب اللغة العربية دور المعبّر عنها والحافظ لتراثها في إطار حضاري مشترك...) هذا التعريف يدلنا على استقرار العمل العربي المشترك على مفاهيم واقعية، ودخوله في البحث عن المشتركات المصلحية لكل دولة عربية مع نظيراتها، ليتحول العمل العربي المشترك من دعوة وحدوية عاطفية ذات مفاهيم أيديولوجية، إلى عمل يلبي نظام مصلحة عربية مشتركة.
وإذا كان هذا التحول في مراحله الأولى، إلا أنه برهن على جدواه وفعاليته في عدة مجالات وأهمها الآن التقاطع المصلحي الفلسطيني – الأردني – المصري – السعودي الذي أعاد مشروع حل الدولتين في إطار مبادرة السلام العربية إلى وزن مؤثر وفعّال على المسرح الإقليمي والدولي.
هكذا يمكن قراءة تصريحات الإدارة الأميركية حيث تقول ان حل الدولتين هو لحماية دولة إسرائيل وأمنها وتلبية طموح الفلسطيني لدولة تحفظ كرامته.
لذا أمام حركة حماس وقيادتها وكوادرها فرصة مراجعة خياراتهم بعد شلال الدم المستمر على أرض فلسطين واختبارهم لهذا العنف ومن يقف وراءه، إما أن ينحازوا للمصلحة الوطنية الفلسطينية او ينزلقوا نحو الانتحار السياسي اذ لم يعد هناك من يصدق أن ثمة محور للممانعة له مشروع تحرري!! لان من يحتضن فلسطين الدولة في نظام المصلحة الإقليمي العربي ليس كمن يستخدم الفلسطينيين لمصالحه التفاوضية مع الغرب وينأى بنفسه عن المعركة حين يحمى الوطيس.