بين الاستراتيجيات ومسارات الحلول المؤقتة، النتيجة سياسات تراكمية إنتقائية.

عودة على بدء، نظرية نشوء الدولة

الخلافات الأمريكية مع حكومة الاحتلال تنحصر في مدى تأثير إجراءات أي من حكومات الاحتلال على استراتيجيات السياسة الأمريكية بالمنطقة وقدرة تنفيذها.

فالولايات المتحدة لم تعترض على عدوان الابادة منذ البدايات، بل وسهلت بشراكة عسكرية وأمنية وسياسية واقتصادية واضحة تنفيذه، ولم تعمل على وقف إطلاق النار بل أسقطت كل مشاريع القرارات حول ذلك. 

الآن بمجرد التحولات الجارية بالرأي العام الأمريكي والعالمي ومدى تأثيرها على مستقبل العجوز بايدن وحزبه الديمقراطي، تتحرك بطرق خبيثة الدبلوماسية الأمريكية وفق سرابات جديدة وتختلف مع حكومة الاحتلال (الائتلاف) من أجل مصالح أمريكا بالمنطقة ومحاولة الضغط على تغيير حكومة نتنياهو.

بالأصل قامت الولايات المتحدة على جرائم التطهير العرقي لأصحاب الأرض الأصليين، حربها الأهلية بين الشمال والجنوب قامت على أساس ديني من الخلافات في تفسيرات الإنجيل وفق رؤيتهم، تمددت لاحقا في حروب ضد الشعوب خارج أراضيها، سيطر الفكر الصهيوني المسيحي الذي تأثر برؤية الانجيليين على توجهات الحزبين فيها واختلاق رؤية خاصة بهم للتبرير المزعوم لحق اليهود باعتبارهم "شعب" له حق تقرير المصير على حساب حقنا نحن الفلسطينيين.

كُتبَ فيها وعد بلفور أساساً الذي أعلنته بريطانيا لاحقاً، كما نشأ فيها المحافظين الجدد أصلاً من رحم الحزب الديمقراطي هنالك "حزب بايدن"، توحشت بفكرها الرأسمالي وتطورت هيمنتها بفعل استنباط الليبرالية الجديدة بين ريغن وتاتشر، حتى أصبح يحكمها أصحاب مجمعات الصناعات العسكرية الذين يتحكمون بأعضاء الكونغرس كمجلس إدارة شركة احتكارية لتجارة الأسلحة من كلا الحزبين لإثارة الحروب والانقلابات حول العالم.

 عقلية الهيمنة

فالولايات المتحدة تصر أن تعتمد عقلية الهيمنة المتوحشة في جولات دبلوماسييها وعلاقاتها الدولية للضغط باتجاه مشاريع لا تحقق السلم والأمن الدوليين ولا التنمية الاقتصادية للشعوب وتعتمد الحلول الأمنية والالتفاف على حقوق الشعوب بما يخدم فقط رؤيتها الجيوسياسية التي تسعى الآن لها في محاولة لتغير خريطة المنطقة في الشرق الأوسط "الشرق الأوسط الجديد"، كما في مناطق أخرى بالعالم كشرق المتوسط، البلقان، القوقاز وأمريكا الجنوبية وأوراَسيا، في إطار صراعها الذي تراه هي مع روسيا والصين ومجمل الحضارة الشرقية عموماً .

وبرعايتها لاتفاقيات إقليمية فهي لا تخدم سوى تشجيع سياسة إسرائيل الكولنيالية بالاستيطان وضم أراضينا واستمرار اعتداء إسرائيل على مياه وحقوق وسيادة دول أخرى، فما هي إلا تدخل سافر وغير أخلاقي حتى وفق المبادئ التي أعلنها مؤسسي الولايات المتحدة رغم قيامها أي الولايات المتحدة على أنقاض شعب أصلي هنالك بالتطهير العرقي، وهذا ما يجمعها في نظرية نشؤ الدولة مع إسرائيل، ما هو إلا تدخل يهدف إلى محاصرة الدول المعارضة لسلوك ومنهج الولايات المتحدة الاستعماري وعقلية الأمريكي البشع وأطماع الرأسمالية الجشعة والليبرالية الجديدة  بالسيطرة على مصادر تلك الدول من البترول والغاز والذهب وطرق التجارة والملاحة، ولذلك فإن كل فكر لمقاومة تلك الرؤى الأمريكية لن تكون مباحة لأصحابها وستقاتلها الولايات المتحدة.

هدية الله لأمريكيا وتحالف اليمين الشعبوي بالعالم بزعامة نتنياهو 

 هنالك حلم محاصرة روسيا وإضعافها إلى جانب الصين وفق رؤية القطب الواحد والوحيد للنظام العالمي الذي سعى له ترامب وما زال يسعى له بايدن كذلك لتحقيق "هدية الله لأمريكيا" كما وصفه الانجيليين أصحاب رؤية "حرب هارماجدون"  الآباء الروحيين للصهيونية المسيحية واليمين القومي الديني المتطرف في أمريكيا من كلا الحزبين الذي يحرك مفاهيم الإرهاب والعنصرية بالعالم ويشجع على نهوض اليمين الصهيوني القومي الديني المتطرف في إسرائيل واليمين الديني الشعبوي بأمريكا اللاتينية وبالقارة الأوروبية، وتحديدا بالاعتماد على علاقة نتنياهو مع أحزاب النازيين الجدد الأوروبية أو بأمريكا اللاتينية والذين يفترض اتهامهم بمعاداة السامية وفق الوصفات الكاذبة الصهيونية على طريق بلقنة جديدة لأوروبا خاصة بعد بدايات انكسار مشروعهم بأوكرانيا واستمرار محاولاتهم الفاشلة تصفية قضية شعبنا من أجل انجاز روايتهم المزعومة بخصوص مملكة اليهود، ولهذا فإن مكونات هذا التحالف الثلاثي الدولي نتنياهو -ترامب- اليمين الشعبوي الأوروبي  ينتظرون فوز بعضهم تلو الآخر من أجل تعزيز تحالفاتهم الدولية القائمة على منهج فكرهم العنصري الفاشي.

ويبدو أن سياسية الأمن القومي الأمريكي تقوم على تفعيل برنامج الفوضى الداخلية وتفجير الوضع الأمني بعد سلسلة من العمليات الدقيقة ضد قدرات ما يتفقون على تسميته بدول محور المقاومة وفق ما رأيناه بالأيام الماضية واليوم في بيروت.

الأوروبين بين سندان اخلاقهم المفترضة ومطرقة مصالحهم

ولكن بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على حرب الإبادة والتهجير، لم يتوصل الأوروبيون إلى أي شيء ملموس من أجل وقف العدوان الإجرامي. وفي ديسمبر قدم بوريل مذكرة غير علنية إلى وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي "حول استقرار ومستقبل غزة". ولم يقدم أي خطة، بل مجرد قائمة من الأفكار التي لا تقدم سبيلا للخروج من الأزمة، وهي غير كافية على الإطلاق لمواجهة الكارثة التي تكشفت فصولها من البداية. وفي منتصف يناير قدم لوزراء الاتحاد الأوروبي خطة أخرى لعقد مؤتمر دولي لمحاولة استئناف عملية السلام نحو حل الدولتين. لكن وبتخطي السؤال المباشر المتعلق بالحل السياسي لكارثة غزة خاطر بجعل الخطة غير ذات مصداقية ومنفصلة عن الأزمة المشتعلة على الأرض، كما أن افتراض الأوروبيين بأن حماس ستُخرج من غزة وأن السلطة الفلسطينية ستتولى السلطة في شكلها الحالي دون حماس أو أن تأتي على ظهر دبابة إسرائيلية ودون وجود خطة دبلوماسية لإعادة السلطة الفلسطينية، فإن ذلك شكل أساس الوهم الأوروبي عندما رفض الأخ الرئيس أبو مازن تلك المخططات.

 يبدو أن الأوروبيين يحصرون أنفسهم في سيناريو قد يتبين أنه ضرب من الخيال، كما أن رؤيتهم تلك تدعم ضمنياً أهداف الحرب الإسرائيلية المتطرفة للقضاء على المقاومة في غزة. وبدلاً من ذلك، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يتقبل الاحتمال القوي لبقاء حماس، وأن أي سلطة حاكمة في القطاع سوف تحتاج إلى تعاون امتداداتها الجماهيرية والمؤسساتية وما يتبقى من أجنحتها العسكرية هنالك. ومن المؤكد أن المقاومة بكافة تشكيلاتها ستبقى جزءاً من المشهد السياسي الفلسطيني الأوسع، وربما تحظى بدعم شعبي قد يكون أقوى بكثير من ذي قبل. وسوف يكون بعض من أشكال التسوية من جانب الأوروبيين مع المقاومة في غزة أمراً حيوياً لتسهيل قيامها بدور إيجابي في ذلك.

إن أي مساهمة أوروبية إيجابية يجب باعتقادي أن تتركز اليوم على تأييد توسيع قاعدة الحوار الوطني الفلسطيني الشامل في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي ضرورة تميز المواقف الأوروبية عن الموقف والشروط الأمريكية حول "سلطة متجددة"، كشرط لدور لها في غزة ما بعد انتهاء العدوان.

إن شكل السلطة يحدده فقط شعبنا الفلسطيني ويحدد مكوناته السياسية والأمنية.

إصرار نتنياهو في وجه مفاوضات الصفقة

في حالة التفاوض الجارية الآن تحت التهديد بمزيد من الجرائم في رفح، يضع كل طرف السقف الأعلى من مطالبه على الطاولة، وعادة ما يتوصل أطراف المفاوضات إلى ضرورة التوقف أو القبول عند مستوى محدد من النقاط يضطر فيها الطرفين للقبول بها. إلا أن نتنياهو وائتلافه من الحكومة لا تنطبق عليهم المفاهيم والأسس النظرية للمفاوضات، فنتنياهو يدفع اليوم باتجاه تصعيد حرب الإبادة بحق شعبنا وتدمير ما تبقى من كافة أشكال البنية التحتية واستمرار قتل أكبر عدد من أبناء شعبنا وفق ما شاهدناه اليوم من تكاثر المجازر بالجنوب، ودفع1.5 مليون من شعبنا نحو سيناء أو دول أخرى عبر البحر من خلال ارتكاب المجازر الجديدة في رفح.

الدولة الفلسطينية ومسابقة الزمن

باعتقادي أن الأمريكيون أي الإدارة الحالية ورغم ضيق الفترة المتبقية لبايدن بالبيت الأبيض يدركون أكثر من أي وقت مضى ضرورة الدفع باتجاه تنشيط المسار السياسي، كذلك تفعل الآن بريطانيا وفرنسا، وبأن الأمن والاستقرار يتحقق من خلال الدولة الفلسطينية، والتي يجب عليهم تعريف مضمونها وشكلها وفق ما أشرت له في مقالي الاسبوع الماضي وآليات تنفيذها حتى لا تصبح سراباً متجدداً، إذا كانوا هم جادون في ذلك. فبايدن يسابق الزمن بعد أن تأثر وضعه الانتخابي بارتباطه بسياسات نتنياهو وبعد أن خسرت إسرائيل الحرب الدعائية الإعلامية وتكسرت صورتها التي حاولت ترويجها على مدار عقود بمساعدة الولايات المتحدة، فلقد أصدر الرأي العام الدولي حكمه، إسرائيل مذنبة بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية وتهجير السكان الفلسطينيين ومتهمة بالابرتهايد، والآن العالم بانتظار قرار محكمة العدل الدولية القضائي. فقط قيادة الولايات المتحدة والإتحاد الاوروبي بقيت صامتتين، أو غير صامتتين لكن كشريكتين لدولة الإبادة الجماعية الصهيونية وهذا ما يدفع ثمنه بايدن الآن حتى في أوساط محفظته الانتخابية.

ولذلك فأن نتنياهو يمرر وقت بانتظار عودة ترامب للبيت الأبيض وحتى يحافظ على مكانته كرئيس حكومة وهذا هو الأهم له. والأهم له قد يعني من جهة أخرى القبول بجزء من مطالب المقاومة لصفقة التبادل والهدنة كي تستمر حكومته ويتغير الوضع بالولايات المتحدة، وبذلك جميعها تبقى مسارات انتقائية لحلول مؤقتة إذا لم يتحقق مرة وللأبد حق شعبنا بوحدته وفي تقرير مصيره واستقلاله الوطني وبإنهاء الاحتلال أولاً.

كلمات مفتاحية::
Loading...