بقلم: محمد كريشان
ليس سهلا أبدا الكتابة عما جرى في السابع من أكتوبر الماضي ولا ما أعقبه إلى يومنا هذا في قطاع غزة فالأحداث المضرّجة بالدماء والمثقلة بالآلام تتلاحق بما يحول دون أخذ مسافة تسمح بإصدار كتاب قادر على سرد الرواية الكاملة، وبالأخص المنصفة، لكل ما جرى.
ما يميّز حركة النشر في الولايات المتحدة وأوروبا هو قدرتها على المسارعة بإصدار كتب عن أحداث هزت العالم حتى وإن كانت ما زالت تجري ومتفاعلة، وهذا ما أقدم عليه تحديدا الصحافيان الفرنسيان بانوا كريستال وغالهار فنويك اللذان سبق لهما العمل مراسلين في القدس لسنوات في كتابهما الصادر مطلع العام الجديد في باريس عن «دار روشي» للنشر تحت عنوان «7 أكتوبر 2023، إسرائيل غزة، صدام المآسي».
ولأن الكتاب في صفحاته المائتين، من الحجم المتوسط وبغلافه الأسود الحزين، «ليس للإقناع ولا للاتهام ولكن للتدوين وتقديم شهادة، حتى لا تسقط هذه المآسي في النسيان، أو في التحريف، أو في المحو من قبل من ينكرونها» فقد اعتمد الكاتبان، وبحذر شديد، فقط على تقديم شهادات حية لأناس عايشوا ما جرى، من خلفيات ومواقع مختلفة، فكان هناك الإسرائيليون الذين شهدوا الهجوم المباغت فجر السابع من أكتوبر، أو كانوا على تواصل مع أصدقائهم وأقربائهم خلاله، وكان كذلك الفلسطينيون الذين رووا ما جرى لهم مع بداية «طوفان الأقصى» من عمليات انتقام إسرائيلية واسعة النطاق، واضعين كل ذلك في سياقه التاريخي.
فسح الكاتبان المجال لشهادات شخصية مشحونة بالعواطف من كلا الطرفين، جمعاها مباشرة أو عبر الهاتف والرسائل بحكم عدم تمكنهما من دخول غزة. قبل كل شهادة يقع التعريف بصاحبها ثم يترك كلامه يتدفق دون تدخل أو تعليق، مع ذكر تاريخ كل شهادة والإشارة في نهايتها إلى ما قد يكون حصل من تطور بعده.
سيجد الفلسطيني أو العربي نفسه وهو يقرأ هذا الكاتب ما قد لا يريد أن يعرفه عما حصل للعائلات الإسرائيلية في غلاف غزة في ذلك اليوم، وسيجد الإسرائيلي والفرنسي المتعاطف معه ما لا يريد هو الآخر أن يعرفه عن معاناة الفلسطينيين قبل ذلك التاريخ وبعده. وفي كليهما سنجد شهادات إنسانية مؤثرة هي بالتأكيد في سياق ما كان يسمّيه الكاتب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي «أنسنة العدو». وفي هذه الشهادات سنجد الإسرائيلي المفرط في عدائه للفلسطينيين وتبرير السياسات الإسرائيلية ضده، وكذلك الداعي إلى السلام معهم وإنهاء معاناتهم وصولا إلى تعايش تاريخي ينهي دوّامة الحروب والدمار، وسنجد الفلسطيني المتفهّم لما قامت به حركة «حماس» في ذلك اليوم وكذلك المعارض له وللحركة، وسنجد أيضا الداعي إلى أن لا حل سوى بمواصلة المقاومة المسلحة لدحر الاحتلال، وكذلك المؤيد لإمكانية قيام تسوية سلمية تاريخية بين الشعبين.
مجهود السرد والتوثيق من كلا الجانبين، جاء بحرص واضح من الكاتبين على التوازن وليس الحياد لأننا، كما يقولان عن نفسيهما في المقدمة «لسنا محايدين فالحياد، مثل الكمال، ليس من هذا العالم ولا هو مستحب، ذلك أن الحياد المطلق يحول بيننا وبين الشعور بمصيبة أمّ فقدت ابنها، أو عجز أب عن حماية ابنه ذي العامين (..) منطلقين من مبدأ أن كلام مواطن إسرائيلي عادي يساوي كلام مواطن فلسطيني» مع تأكيد أن مرجعيتها في وصف الأماكن وانتقاء المفردات تظل القانون الدولي وقراراته المتعددة التي نصّت على تسوية سلمية لم تر النور بسبب التعنّت الإسرائيلي.
وبعد المقدمة، واثني عشر فصلا، اختار الكاتبان أن «ينفصلا» ليكتب كل منهما رأيه الخاص وانطباعاته الشخصية في نهاية هذا الكتاب فذكر كريستال أنه كتب هذا الكتاب للضحايا المدنيين من الإسرائيليين والفلسطينيين «على أمل الخروج من فخ التشويه والتعميم حول هذا النزاع فأغلبية الضحايا هم مدنيون مثلي ومثلك» فيما ذكر فنويك أن حركة «حماس» استطاعت أن «تضع القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية ونجحت في أن تكون مخاطبا لا غنى عنه» مضيفا أن «الجدران يمكن أن تُحطّم والقوة (الإسرائيلية) وحدها لا يمكن أن توفّر الأمن حتى حين تستعمل بقسوة وبشكل دائم» ليخلص في النهاية إلى أن «على الأمم المتحدة وبعض الوسطاء الآخرين من ذوي النوايا الحسنة أن يساعدوا هذين الشعبين (الفلسطيني والإسرائيلي) على الطلاق، عليهم أن يقدموا لهما ضمانات أمنية ملموسة وألا يتركاهما وحيدين وجها لوجه».
وفي النهاية يمكن القول إن الكتاب، الذي ستتلوه بالتأكيد كتب أخرى في الأشهر المقبلة في الغرب كله، ممتع وإنساني في سرده، مؤثر وساع إلى إنصاف عزّ العثور على الحد الأدنى منه في أغلب وسائل الإعلام الفرنسية التي أظهرت طوال الأشهر الماضية انحيازا أعمى وغبيا لمجمل الرواية الإسرائيلية. ومع أن هذا الانحياز قد يكون خفّ نسبيا في الأسابيع الماضية لكن ذلك لا يمنع من القول إن أول من يجب عليهم قراءة هذا الكتاب هم تحديدا الصحافيون الفرنسيون، وكذلك السياسيون بالمناسبة، لعلّه يخفف قليلا من غلوّهم جميعا.