كتب واصدارات

ســــيرة القيـد والقـلم | نبهان خريشة الحلقة الثالثة

العبور الثاني – المنشور

الدوريات العسكرية المحمولة والراجلة، تجوب أزقة وشوارع طولكرم وطرقات ضواحيها الثلاث: ذنابة وشويكة وارتاح خلال النهار، وفي الليل لا تسمع سوى عواء الكلاب، وأصوات أجهزة اللاسلكي المبحوحة، ومكبرات الصوت، تدعو المواطنين بين عمر 16 و60 للتجمع في الساحات العامة، ويجري التحقيق مع شبان، للحصول على معلومات عن أماكن تواجد الفدائيين، دون جدوى ويساق العشرات معصوبي الأعين إلى المعتقلات.        

وكنت في العام 1968 قد بلغت الرابعة عشرة من العمر، وكنت أشارك في المظاهرات ضد قوات الاحتلال، في محيط مدرستنا وأحيانا أقود بعضها... كنا نشعل النار في إطارات السيارات، وأحيانا نضرمها في إطارات الجرارات الزراعية الخلفية الضخمة.     

كانت المشاركة في المظاهرات قليلةً نسبياً، فالناس يخشون بطش الاحتلال، إلا أنه لا بد من تجنيد المزيد للتظاهر... فكرت أنا وصديقي أحمد بطباعة منشورات تحث الناس على المشاركة، إلا أنه لم يكن لدينا أدنى فكرة عن كيف تتم الطباعة، كما يطبع أساتذتنا أوراق الامتحانات، كما أنه لم يتوفرالمال بأيدينا.   

 "علينا أن نراقب الأساتذة، لنعرف كيف يطبعون مئات الأوراق من نسخة واحده"  قلت لأحمد

- ليس بوسعنا الاقتراب من غرفة المدير حيث تطبع الأسئلة.. سيعتقدون أننا نحاول سرقة أوراق الامتحانات!

- لن نقترب من غرفة المدير، ولكن بالإمكان معرفة ذلك من الأستاذ حسني، الذي لن يشك بنوايانا إذا سألناه عن كيف تتم عملية نسخ مئات أوراق الامتحانات من نسخة واحدة..   

أستاذ اللغه العربية حسني الأربعيني، نظر إليّ بريبه من أسفل نظاراته متعددة العدسات، عندما سألته كيف تنسخ إدارة المدرسة عشرات أوراق الاسئلة من نسخة واحدة؟

- لماذا؟

- لطباعة إعلانات تجارية طلبها تاجر مني لترويج بضاعته. 

- تريد طباعة إعلانات تجارية وشعرذقنك كزغب الطيور لم ينبت بعد! ثم قل لي: كيف تروج للتجارة وهي كاسدة هذه الأيام؟!

- لأنها كاسدة فهي بحاجة للترويج.. ثم أن صاحب متجر الحبوب “الشيخ حسين" طلب مني ذلك، ووعدني بخمسة دنانير مقابل طباعة وتوزيع 200 إعلان لترويج محلات الحبوب التي يملكها..  

- رغم أنني غير مقتنع بمقاصدك من السؤال، إلا أنني سأشرح لك العملية: نحفر بقلم برأس معدني كتابة على لوح من الشمع بحجم الورق ِA4، ثم نضع الحبر على اللوح ونمرر الورق على هذا اللوح، إما يدويا أو بواسطة آلة ناسخة.. تجد هذه المواد في المكتبات في السوق!

معضلة أخرى واجهتنا:  

من أين لنا بثمن أدوات النسخ؟ لم أر في حياتي مبلغاً أكثر من عشرة دنانير!!  

أقنعت أحمد بالسطو على بيارة "الزعتوت" وبيع ما نغنمه من الحمضيات لــ "جابر"، ولن تعتبر تلك سرقة لأن المقاصد نبيلة وإن الله غفوررحيم!!

دكان جابر يقع في منطقة السور القديم في القرية وهو يشتري أي بضاعة: لوز.. زيتون .. زيت .. برتقال .. ليمون، دون أن يسأل من أين لك هذا؟! وهو لا يغلق دكانه إلا في أوقات الصلاة، التي يحرص أن يؤديها في أوقاتها حاضراً في المسجد على بعد عشرات الأمتار من دكانه.  

بعد أن غادر "الزعتوت" بيارته مساء يوم ماطر، فتحنا ثغرة في سياجها من الجهة الشرقية، بعد أن أوقفنا العربة التي يجرها حمار، كنت قد أستعرتهما بإسم جدي دون علمه، من جارنا "أبو الهرشه"، الذي اقتنع بما أخبرته به من أن جدي باع حماره وسيشتري آخر من سوق الدواب الخميس المقبل..  وكانت حصيلة "الغارة"، ثمانية أكياس خيش كبيره مليئة بالحمضيات من كافة الأنواع، بالإضافة إلى قطفي موز يزنان أكثر من خمسين كيلوغراماً.

وأخيراً حصلنا على خمسة دنانير وخمسة وسبعين قرشاً ستمكنا من شراء أدوات نسخ المنشورات، ولم نعتبر ذلك سرقة أو سطوا لا سمح الله، بل إنها مساهمة من "الزعتوت" في مجهود مقاومة الاحتلال دون علمه سيسجلها الله له بالتأكيد في ميزان حسناته يوم القيامة..

 ****

في ليلة من شتاء 1968 دخلنا غرفة عملياتنا وهي غرفة صغيرة أسفل بيت عمي "ابو طارق" بين أشجار الزيتون.. "قد يأتي عمك"! قال أحمد  

- لا تقلق.. عمي في الكويت ولم ينزل بهذا البيت منذ أن بناه عام 1960 سوى ثلاث مرات.

كتبت نص البيان بخط جميل محرضاً الطلاب والعمال على مقاومة الاحتلال بالمظاهرات والاضرابات وإقامة المتاريس في الشوارع وحرق إطارات السيارات. وبحسب تعليمات الاستاذ حسني حفرت بالقلم ذي الرأس المعدني على لوح الشمع المنشور ثم سكبنا حبر الطباعة على لوح الشمع ووضع أحمد الورق عليه وقمت أنا بالضغط عليه بـ "بشوبك العجين" الاسطواني الذي تبسط والدتي العجين به قبل خبزه.. طبعنا  150 منشورا ثم تركناها  قليلا لتجف.

"في أي مدارس سنوزع المنشورات؟ " سأل أحمد.   

- العدوية وطولكرم الاعدادية والفاضلية الثانوية.. 

- ولكن العدوية وطولكرم الاعدادية محاذيتان للمقاطعه التي تعج بجنود الاحتلال بالاضافة إلى أن الكشافات لا تكف عن الدوران إلا في الصباح!

- بسيطة.. سنتسلل أولا لمدرسة "العدوية" للبنات، لأن كشافات الجيش لا تضيئها بشكل كامل وسنتحرك بسرعه في فترات دوران الكشافات ونوزع المنشورات في المدرسة قبل أن ننتقل لمدرسة "طولكرم الاعدادية المحاذية لمدرسة العدوية.

- ولكن مدرسة طولكرم الاعدادية ملاصقة تماماً لـمقر الحكم العسكري والكشافات هناك تجعل الليل نهاراً وقد يطلقون النار علينا فنقتل!

- توكل على الله يا رجل.. سنوزع 30 منشوراً فقط في المدرسة وأملنا أن يخبر الطلاب بعضهم البعض بفحوى المنشور.. 

قبل منتصف الليل بقليل احتضنت الكيس البلاستيكي وفيه المنشورات وكأنني أحمل مدفعا رشاشا، وتعتريني مشاعرمختلطة من الخوف التي ما لبثت أن تلاشت بفعل الرغبة الجامحة في مقاومة الاحتلال، مستذكراً مسيرة خالي "ابراهيم السبع" الذي تصدر المظاهرات ووزع المنشورات احتجاجاً على ضم الضفة الغربية للأردن وإقالة حكومة سليمان النابلسي.  

كمراهق راودتني أفكار عظيمة بأن هذه المنشورات التي سنوزعها ستؤدي إلى تظاهرات عارمة تؤدي إلى انسحاب الجيش الاسرائيلي من الأراضي الفلسطينية التي لم يكن قد مضى على احتلالها سوى عدة أشهر..

 دخلنا إلى مدرسة العدوية من جهتها الشمالية بمحاذاة مشرحة الموتى والمستشفى الحكومي البعيد نسبياً عن أضواء كشافات قوات الاحتلال ووزعنا المنشورات، إلا أننا انبطحنا على الأرض مراراً أثناء العملية تجنبا لرؤيتنا.

المدرستان العدوية للبنات وطولكرم الاعدادية للبنين متجاورتان يفصل بينهما سياج فيه ثغرات ما سهّل عبورنا إلى مدرسة الذكور الاعدادية.. كنا نسمع هدير محركات السيارات العسكرية بوضوح، كما نسمع المناداة بمكبرات الصوت بالعبرية الذي يكاد لا يتوقف ممزوجاً بنباح كلاب الحراسة وكشافات الاضاءة التي تقطع عتمة الليل كسكين في لوح من الزبدة، وتمكنا من إلقاء 30 منشوراً أمام غرف الصفوف كيفما اتفق، إلا أن العملية استغرقت نحو ساعة لاضطرارنا للإنبطاح أرضاً مطولاً لتجنب الكشافات.

وكانت المهمة في "المدرسة الفاضلية" سهلةً نسبياً مقارنة بالمدرستين الأخريين، لوقوعها بعيداً عن المقاطعه (مقر الحكم العسكري)، إلا أنه كان علينا الانتباه جيداً من الدوريات التي تجوب الشوارع الخالية تماماً من الحركة باستثناء حركة الكلاب والقطط ودوريات المشاة.. دخلنا المدرسة ووزعنا ما تبقى من منشورات على مهل قبل أن ينادي المؤذن لصلاة الفجر بقليل.

في اليوم التالي شعرت بالفخر عندما سمعت الطلاب في مدرستنا يتحدثون عن المنشور، إلا أنني أصبت بالاحباط لسماع بعضهم يقول إن الثورة وزعت المنشورات، وكدت أن أفشي السر وأقول "نحن الثورة"!!  لولا أن أحمد وخزني هامساً "سننتهي بالسجن إذا تكلمت"!!، وما أثار غيظي أيضاً أن آذن المدرسة "أبو أحمد" أتلف 10 منشورات من الـ 30 للتملق لمدير المدرسة لإظهار مدى حرصه على النظام في المدرسة وتجنيبها ويلات إجراءات الاحتلال..  

لم يخرج الطلاب إلى الشوارع.. ولم تحرق إطارات السيارات.. ولم تُقَم المتاريس في الشوارع كما دعا منشورنا.. الدوريات الراجلة والمحمولة تجوب شوارع المدينة وطرقات القرى القريبة منها، ومنع التجول الليلي ما زال قائماً ومكبرات الصوت المثبته على الجيبات العسكرية تدعو بعربية ركيكة الرجال ممن وصلوا سن الحلم لتوهم إلى سن الستين للتجمع في ساحات الحارات ليجري اعتقال البعض بشبهة مساعدة "المخربين"!!

 

Loading...