الحلقة الثانية
وطنية ترامب ومعتقداته؟
إن طبيعة شخصية دونالد ترامب المركبة والمتناقضة تفرض على دارسها الخوض في تفاصيل كثيرة ومتشابكة للحصول على نتائج يمكن أن تقترب من رسم صورة قريبة وواقعية له، وعندما طرحت سؤالي عن وطنية ترامب فإن دافعي هو التعرف على الأبعاد الوطنية في عقلية هذا "التاجر السياسي" ومدى اتساقها مع النظام الأميركي ومنظومة القيم الأميركية السائدة منذ القرن السادس عشر حتى القرن الحالي.
ترامب وإن كان يملك ميزة ما عن بقية الرؤساء الأميركيين فميزته هي الجهل المغطى بالعنجهية والثروة، ويعد رونالد ريغان الرئيس "الأربعين" لأمريكا هو الأقرب لشخصيته والقاسم المشترك بينهما هو الجهل وعدم الثقافة.
ويتداول السياسيون الأردنيون من رجالات حقبة الملك الحسين بن طلال نكتة لم أتمكن من التحقق منها عن رونالد ريغان ومدى جهله وسطحيته.
وتقول الرواية – النكتة- أنه وخلال أحد اللقاءات بين الملك وريغان في منتجع كامب ديفيد حاول ريغان مجاملة الملك وبخاصة في ظل الظروف السياسية التي نتجت عن الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وما أطلق عليه بعد ذلك مبادرة ريغان والتي سميت لاحقاً مبادرة الملك فهد.
أعرب ريغان عن رغبته بزيارة الأردن وتحديداً لمشاهدة البتراء وصيد السمك في "البحر الميت" الذي هو "أكثر منطقة انخفاضاً في العالم عن مستوى سطح البحر.
الملك الحسين شعر بحرج كبير ورد على رغبة ريغان قائلا بلباقته المعروفة "البحر الميت" يا سيادة الرئيس لا تعيش فيه أسماك ولا أي كائنات بحرية من شدة ملوحته، لكنه يتمتع بمزايا أكثر بكثير من أي بحر آخر على وجه الكرة الأرضية، وأخذ يعدد تلك المزايا ومنها أنه يتمتع بأعلى نسبة أوكسجين ويعد طينه من أفضل "الماسكات" أي الأقنعة للوجه وللبشرة بشكل عام.
أما بالنسبة لترامب فقد كان وفي كل يوم يرتكب نكات و"حماقات" سياسية أو ثقافية واقتصادية عبر تغريداته التي تتجاوز 358 تغريدة في الشهر أي بمعدل 12 تغريدة يومياً و4302 تغريدة سنوياً، وهو ما يطلق عليه في ثقافتنا العربية "يغرد خارج السرب" أو "يثرثر من أجل الثرثرة"، ففي تغريداته ينطلق للتعبير عن رغباته وأحقاده الشخصية، وحتى إعجابه الفني المغلف بإعجابه الجنسي لبعض الفنانين والفنانات، ومن هفواته الشهيرة والمضحكة جداً إعلانه خلال مؤتمر Values Voter Summit في واشنطن بتاريخ الرابع عشر من أكتوبر عام 2017 أنه اجتمع مع رئيس جزر فيرجن، ومن المعروف أن هذه الجزر تحكمها الولايات المتحدة.
وقال ترامب في تصريح صحفي على هامش المؤتمر: غادرت تكساس وفلوريدا ولويزيانا، متوجها إلى بورتوريكو، والتقيت برئيس جزر فيرجن".
وبعد ذلك سرد على المشاركين في الفعالية، كيف يتعامل سكان الجزر مع عواقب إعصاري "إيرما" و "ماريا".
وقد تسبب هذا التصريح بحرج كبير لطاقم البيت الأبيض خاصة بعدما طلبت وسائل الإعلام المختلفة إيضاح ما قصده ترامب في تصريحه هذا، حيث أوضح البيت الأبيض أن الرئيس يقصد حاكم " فيرجن أيلاند " وليس رئيسها.
يتصرف ترامب بمسلكيات هي أقرب ما تكون لشخصية "بلطجي" يصعب السيطرة عليه وعلى ردود أفعاله بالإضافة إلى ضحالته السياسية وخوائه الثقافي وبعده عن الذوق والبرتوكول اللذين يفترض أن يتحلى بهما أي رئيس دولة في العالم رغم ثرائه المالي الذي يقابله فقر مدقع فكريا وحضاريا.
من أشهر التصرفات غير اللائقة والمخالفة للبرتوكول كان مع ملكة بريطانيا الملكة اليزابيث خلال زيارته لندن في الثالث عشر من يوليو عام 2018، فعقب الاستقبال الرسمي لترامب وزوجته في قلعة وندسور وانتهاء مراسم الاستقبال كان من المفترض أن تترك الملكة المنصة الرئيسية، ومن المفترض أن يتبعها ترامب، إلا أن جهله بالبروتوكول جعله يندفع ويجعلها خلفه، وسبقها بخطوات وبمسافة بعيدة نسبياً أحرجت الملكة التي اعتادت استقبال ملوك وأمراء ورؤساء يلتزمون بالبرتوكول البريطاني القاسي، وفي اللحظة التي انتبه فيها ترامب لخرقه البرتوكول كانت علامات الغضب والحنق بادية وبوضوح على وجه الملكة وهي المعروفة بهدوء أعصابها وصعوبة إظهار غضبها أو فرحها وهو ما وثقته كاميرات التلفزة وصور المصورين الذين كانوا يتابعون الحدث ويغطونه في 14 / يوليو / 2018
أمّا الحادثة الثانية فكانت مع ملك المملكة الأردنية الهاشمية عبد الله الثاني ابن الحسين وزوجته الملكة رانيا العبد الله، حيث التقطت صورة لترامب وزوجته، وللملك والملكة، وكانت الصورة بمثابة إدانة بكل المقاييس لمستوى الذوق العام والبرتوكول في البيت الأبيض حيث أظهرت الصورة ترامب وزوجته يقفان على السجادة الحمراء الممدودة أمام مدخل البيت الأبيض فيما يقف الملك عبد الله والملكة رانيا على الأرض وذلك في 25 / 6 / 2018
لقد أغرت شخصية ترامب هذه مجموعات الضغط وتحديداً اللوبي الصهيوني في أمريكا والكنائس المحسوبة على “المسيحية الصهيونية" للتأثير والسيطرة عليه من أجل تبني أجندتها وتحديداً فيما يتعلق بالقدس والتي كانت ومازالت القضية الأكثر حساسية وخطورة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
عقيدة ترامب الوطنية!!
في البحث عن الجذور الوطنية لدى ترامب وجدت صعوبة بالغة في التقاط محطات معينة تعتبر محطات مفصلية أظهر فيها ترامب مواقف وطنية نزيهة لا غاية من ورائها إلا مصلحة أمريكا فقط تطبيقاً لشعار "أمريكا أولاً" الذي رفعه جورج بوش الابن الذي سبقه في زعامة الحزب الجمهوري.
في تتبع حياة ترامب لم أستطع العثور على محطات يمكنني اعتبارها محطات "وطنية"، وعندما اجتهدت في تحليل سلوكه السياسي الذي حاول من خلاله التقرب والاندماج من الحالة "الوطنية الأمريكية" وجدته غارقاً في مطبات لها أبعاد عنصرية أو أحقاد طبقية.
من أكثر المواقف التي نزعت عنه صفة "الوطنية"، فيما كان يريد اثباتها، هي تلك القرارات التي تتعلق بحظره عدداً من الجنسيات العربية والإسلامية واللاتينية من دخول الولايات المتحدة، وكان الجدل الصاخب الذي أثير بسبب مجمل قوانين الهجرة التي قررها ترامب والتي طغت عليها الصبغة العنصرية وأثرت "كارثيا" على شعبيته وقوته السياسية وبخاصة بعد خساراته لتلك القوانين التي اسقطتها تلك المحاكم في أكثر من ولاية باعتبارها غير دستورية.
لقد كان ترامب ومازال يعتبر ذاته ومصالحه هي "معيار الوطنية الحقيقي أو هي سقف الوطنية" وسقف المصالح القومية لأمريكا ويمكن الاستشهاد بخلافه الشهير مع مالك والرئيس التنفيذي لشركة "امازون" جيف بيزوس، وهو خلاف بدأه ترامب مع مالك شركة امازون حتى قبل تسلمه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن غير المعروف حتى هذه اللحظة ما هي دوافع ترامب الحقيقية من وراء هذا العداء لواحدة من أكبر الشركات في العالم في مجال التجارة الالكترونية؟
لقد عبر ترامب عن شعوره السلبي تجاه شركة أمازون قبل انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، وغرد في 7 ديسمبر عام 2015 قائلا:” إذا دفعت أمازون ضرائب عادلة، فسوف تتهاوى أسهمها وتتفتت.”
وقد تسببت تغريدات ترامب المتكررة ضد شركة امازون ومالكها جيف بيزوس بإيذاء الشركة على الصعيد المالي وبخاصة تغريداته في أوائل إبريل من عام 2018 حيث وجه اتهامات صريحة للشركة بأنها تمارس التهرب الضريبي وتستغل البريد الوطني الأمريكي في تعاملاتها التجارية وتتسبب له بخسائر فادحة، ومن ضمن المحطات الساخنة والحساسة في المعركة بين ترامب – بيزوس كانت تغريدات الرئيس الأمريكي في أغسطس/آب من عام 2017 حيث كتب ترامب على حسابه في تويتر يقول "إن أمازون "تلحق ضرراً كبيراً بتجار التجزئة دافعي الضرائب"، وهي التغريدة التي تسببت بخسارة الشركة في فترة وجيزة قرابة 5.7 مليار دولار من قيمتها السوقية.
وفي أواخر مارس/آذار من عام 2017، هبطت أسهم أمازون بنحو 5% مبددة نحو 30 مليار دولار من القيمة السوقية للشركة بعدما ذكر موقع الأخبار "أكسيوس" أن الرئيس ترامب "مهووس" بعملاق قطاع التكنولوجيا ويريد كبح نفوذه لأنه لا يدفع ضرائب كافية.
وتسببت تغريدات ترامب الاتهامية ضد امازون ورئيسها التنفيذي جيف بيزوس بخسارة هذا الأخير ما قيمته 5.9 مليار دولار
كما تسببت "تغريدة إبريل من العام ذاته، أو قنبلة إبريل الاقتصادية"، بخفض سعر سهم شركة أمازون بنحو 5.21٪ ليصل إلى 1371.99 دولار، كما تراجعت ثروة بيزوس إلى 114.2 مليار دولار، فيما استقرت ثروة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عند 3.1 مليار دولار، وفقاً لتصنيف فوربس اللحظي لثروة أصحاب المليارات حول العالم.
أسباب العداء؟؟
لا توجد معلومات محددة ومؤكدة حول أسباب العداء بين ترامب وبيزوس، وهو عداء بدأ في عام 2013 بعد أن قامت امازون بشراء صحيفة "واشنطن بوست"، (Washington Post) في الخامس من أغسطس سنة 2013 وكل مؤسساتها لصالح موقع أمازون بمبلغ 250 مليون دولار منهياً سيطرة عائلة غراهام على المؤسسة لأكثر من أربعة عقود ولتصبح الواشنطن بوست تلك الصحيفة العريقة أحد أهم الصحف الأمريكية وسيلة جيف بيزوس السياسة والمدافعة عن مصالحه في وجه أعدائه السياسيين والاقتصاديين.
يفسر تقرير لموقع الجزيرة نت حول الموضوع نشر في إبريل من عام 2017 طبيعة التناقض والصدام بين ترامب وجيف بيزوس حيث يقول التقرير منذ أيام حملته الانتخابية ثم بعد توليه الرئاسة، لم يعجب الخط التحريري لصحيفة "واشنطن بوست" ترامب الذي ظل يصب عليها جام غضبه، وظل هو مادة مفضلة ودسمة في تقاريرها.
"الواشنطن بوست" والتي ساهمت في تشكيل الرأي العام الأمريكي لعقود طويلة واشتهرت بإثارة قضايا سياسية أشهرها فضيحة "ووترغيت"، تعاملت مع انتقاد دونالد ترامب "كفأل خير" عليها حيث فازت في عام 2017 بجائزة “بوليتزر" وهي أرفع الجوائز الممنوحة للصحفيين في الولايات المتحدة- على تحقيق استقصائي انتقدت فيه تبرعات ترامب للجمعيات الخيرية.
كما نشرت الصحيفة تقريرا بداية عام 2018 قالت فيه إن ترامب يقود أمريكا إلى الانهيار، أتبعته بتحليل آخر رأى أن أميركا أصبحت معزولة وتراجع دورها في العالم بعد عام على تولي "المستبد" الرئاسة فيها، قبل أن تقيمّ تغريداته بأنها كثيرا ما تكون "سخيفة ومهينة"، وأنه يستخدم تويتر لزرع بذور الارتباك والغضب على حد وصف الصحيفة.
لم يقف ترامب موقف المتفرج إزاء ما كان يراه سياسة تحريرية معادية له من الصحيفة والقائمين عليها، فكان أن تكرر حضور "واشنطن بوست" في تغريداته، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بعملاق البيع بالتجزئة على الإنترنت، وهذا يعود بالطبع لكون الصحيفة يمتلكها جيف بيزوس، وهو أيضا مؤسس أمازون ومديرها التنفيذي.
وضمن تصفية حساباته السياسية وبشكل "اقتصادي"، دعا ترامب إلى تسجيل الصحيفة على أنها "جهة ضغط رسمية" ضمن اللوبي الذي يدافع عن شركات بيزوس ومصالحه وفي مقدمتها أمازون، وقال إن الفرقة المكلفة حاليا بحشد التأييد لأمازون "لا تتضمن واشنطن بوست الكاذبة" وكان ترامب يهدف من وراء محاولته تلك نزع المصداقية والموضوعية عن المحتوى الذي تتضمنه الصحيفة.
وفي آتون تلك الحرب بين الجانبين غرد ترامب ذات مرة قائلا "أمازون واشنطن بوست -التي يشار إليها أحيانا بأنها راعية أمازون- لا تدفع ضرائب الإنترنت"، وفي المقابل ردت "الواشنطن بوست" -والتي يملكها بيزوس من خلال شركة قابضة لا ترتبط بشركة أمازون- على تغريدات الرئيس الأخيرة المهاجمة لها ولأمازون سريعاً، وقالت في تقرير نشرته على موقعها الإلكتروني إن "أمازون لا تمتلك واشنطن بوست، ومع ذلك يحاول الرئيس إقناع الجمهور بالعكس لدرجة وصفه الشركة أكثر من مرة بأنها "أمازون واشنطن بوست".
تغريدات ترامب حضرت في تقرير لشبكة (سي.أن.أن) الأمريكية التي علقت على الموضوع بالقول إن الرئيس يستغل خصومته السياسية مع صحيفة "واشنطن بوست" المملوكة لبيزوس في اتخاذ إجراءات عقابية تؤثر على مصالح الأخير في سوق الأسهم الأمريكية.
وذكرت الشبكة أن "بصمات" الرئيس ترامب كانت وراء عمليات البيع الواسعة في سوق الأسهم "بسبب هجومه الصاخب والفج على شركة "أمازون".