لقد كانت جمهورية اليونان آخر دولة أوروبية تعترف بإسرائيل عام 93 وتتبادل معها العلاقات الدبلوماسية، في حين كان المكتب الإعلامي لمنظمة التحرير قائماً في العاصمة أثينا منذ عام 1982 كمكتب تمثيلي تطور مع الوقت لمكانة دبلوماسية، منذ أن اختار الرئيس المؤسس أبا عمار التوجه إليها بعد الخروج القسري من بيروت في الطريق إلى تونس. وحتى اليوم ومع تجدد الأجيال ما زال كل الشعب اليوناني يتذكر تلك العلاقة الخاصة بين الزعيمين عرفات وبابندريو رئيس جمهوريتهم والحزب الاشتراكي "الباسوك " فيها. تلك العلاقة التي كانت قد تأسست وتطورت واستمرت حتى رحيلهما منذ أن بدأت ما قبل أن ترسوا سفن قوات ثورتنا القادمة من بيروت في ميناء أثينا حين الخروج. ففي زمن الانقلاب العسكري قدمت ثورتنا لليسار اليوناني على اختلاف منابعه الاشتراكي والشيوعي جزء مما يلزم في كفاحهم. ولليوم فإن ياسر عرفات وكوفيته ما زال يعني شيئاً كبيراً لهم، فهم يتسابقون على الحصول عليها في مظاهراتهم التضامنية معنا ويتوشحون بها منذ بداية عدوان الابادة وما قبل ذلك، وعادة كانت مظاهراتهم التضامنية عبر السنوات الماضية الطويلة ضخمة من حيث المشاركة الجماهيرية بها، والتي ما زالت تحشد لها الأحزاب اليسارية والنقابات العمالية واتحادات المرأة والطلبة. ففي اليونان يكتسب الفكر اليساري مكوناً هاماً من تراثهم التاريخي السياسي خاصة لدور الحزب الشيوعي في قيادة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال النازي وضد الديكتاتورية العسكرية بالتعاون مع حزب الباسوك الاشتراكي الذي حكم اليونان لفترات طويلة.
لقد ساهمت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل في دعم انقلاب العسكر عام 1967 ، لكن شرارة انتفاضة طلبة كلية الهندسة التي اتسعت إلى ثورة شعبية اطاحت بزمرة العسكر الفاشية عام 1973 وأعادت لليونان تقاليده الديمقراطية التي ما زال يتمتع بها شعبهم وتتبدل فيها سلطة الأحزاب الحاكمة بكل شفافية حتى اليوم، رغماً عن الدور الذي تمارسه السفارة الأمريكية في دعم اليمين السياسي اليوناني الذي يحكم اليوم للدورة الثانية، وتمارس الضغوطات على هذا البلد وفقاً لقانون الطاقة والأمن لشرق المتوسط الذي أقره الكونغرس الامريكي وتدفع دائما باتجاه علاقات متميزة لهم مع إسرائيل كما تفعل مع تركيا، بالوقت الذي تستفيد الولايات المتحدة من خلافاتهما حول حدود المياه الاقليمية، وهي تحتفظ بخمس قواعد عسكرية على الأراضي اليونانية وباتفاقيات عسكرية وأمنية متميزة كما مع تركيا أيضاً، تلك علاقة قائمة مؤخراً بين اليونان وإسرائيل.
ورغم ذلك فلقد تطورت العلاقات الثنائية بين فلسطين واليونان في قطاعات مختلفة وأهمها السياسي، وحافظت حكوماتها المتعاقبة على الموقف الرسمي اليوناني التاريخي من تأييد مبدأ حل الدولتين وفق حدود 67 وفق أسس القانون الدولي وقرارات هيئة الأمم المتحدة، رغم محاولات حزب اليمين الحالي الانسجام أكثر مع مواقف دول اليمين الأوروبي لمحاولة التراجع والانحياز لإسرائيل وفق قاعدة مساواة الضحية بالجلاد وحقهم المزعوم بالدفاع عن النفس، في محاولة انتهاك وتغير الموقف التاريخي لليونان والذي يحاول أن ينجح فيه اليمين. لكن قضية فلسطين تشكل خطاً أحمر لدى أبناء هذا الشعب الصديق فتمنعهم من ذلك خاصة في محاولاتهم بعد انهيار الحزب الاشتراكي برحيل زعيمه بابندريو، وقد يبدوا أن تلك مقاربة أخرى تجمعنا وإياهم حول دور الفرد الزعيم وأثره بتاريخ بلاده.
كما ويوجد بين بلدينا اتفاقية مشاورات سياسية إضافة إلى اتفاقية اللجنة الوزارية المشتركة منذ 2018 وانعقادها لأول مرة.
رغم خلافاتهم السياسية كحالنا، إلا أن الموقف من فلسطين يجمعهم إلى حدود ما، لذلك فإن البرلمان اليوناني وبإجماع أعضائه الثلاثمائة من كافة الأحزاب وبقرار متميز عن البرلمانات الاوروبية الأخرى التي اتخذت قراراتها بالأغلبية، دعا الحكومة اليونانية للاعتراف بدولتنا وعاصمتها القدس الشرقية نهاية عام 2015 . هذه التوصية التي ما زلنا ننتظر تنفيذها من حكومتهم كما دول الاتحاد الأوروبي الأخرى بعيدا عن الضغوطات الأمريكية والإسرائيلية، وقد تدفع توجهات اسبانيا وبلجيكا اليوم هذا الأمر إلى الأمام.
باليونان لا تتأخر فئات المؤسسات الجماهيرية والبلديات التي يرفع العديد منها أعلامنا الفلسطينية في كثير من المناسبات، كما والجامعات عن ترسيخ هذا التضامن، فاحتضنت العديد من فعاليات التضامن السياسية والثقافية والموسيقية واستضافت وفود من الوطن لهذا الغرض، وتشكلت لسان تضامن من أهمها اتحاد البلديات المتضامنة مع فلسطين منذ عام 2015.
وبالمناسبة فإنهم شعب شغوف بالطرب والموسيقى الجميلة المعبرة عن الكفاح الوطني والحب والحياة، فكان منهم الموسيقار الكبير الراحل ميكيس ثيوذوراكيس صاحب موسيقى "زوربا" و"الانتصار" كما ولحن النشيد الوطني الفلسطيني الذي احتفظ به الزعيم ياسر عرفات، وقد منحناه وسام فلسطيني عالي وجنسية فخرية قبل رحيله. منهم أيضا الكثير من الأدباء والشعراء الذين جمعت البعض منهم علاقات خاصة طيبة وتبادل رسائل مع شاعرنا الراحل محمود درويش الذي تم ترجمة معظم أعماله للغة اليونانية
وهو من كتب يقول :
وَكَانَ مَطَارُ أَثًينَا يُغَيِّرُ سُكَّانَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَنَحْنُ
بَقَيْنَا مَقَاعِدَ فَوْقَ المَقَاعِدِ نَنْتَظِرُ البَحْرَ، كَمْ سَنةً يَا مَطَارَ أَثِينَا!
كما تم تلحين موسيقي لعدد من أشعار سميح القاسم وتوفيق زياد وتقديم غنائها بعدد من الفعاليات. كما يحمل العديد من القيادات السياسية المتضامنة مع حقوقنا السياسية من أحزاب مختلفة، أوسمة فلسطينية عالية تم منحهم إياها وبعض آخر تم منحه الجنسية الفلسطينية منهم البطلة الأولمبية ونائب رئيس البرلمان سابقا صوفيا ساكاروفا ورئيس البرلمان السابق كوراكيس كما والمناضل الرمز الراحل مناويل جليزيوس الذي رفع علم اليونان فوق الأكروبولس التاريخي الذي يحمل بصمات الحضارة الاغريقية ومهد الديمقراطية بالعالم إيذانا بدحر النازية، وذلك تقديراً لدور هؤلاء الاصدقاء وغيرهم أيضا في دعم قضايا شعبنا وحريات الشعوب كافة .
وفي نهاية خدمتي الدبلوماسية هنالك قبل عام ونصف، فقد منحتني رئيسة الجمهورية اليونانية ووزارة خارجيتها وسام القائد الكبير من وشاح الفينيق للجمهورية والذي لم تمنح درجته سابقا لأي من السفراء العرب، دليلا على مدى احترام اليونان لعدالة قضية شعبنا وكفاحه من أجل الحرية.
عقد من الزمن شعرت أني بين مخلصين ومناضلين من أجل قيم ومبادئ تجمعنا، بين شعب يؤدي التحية لكفاحنا الوطني ويرغب لنا الوحدة والانتصار والتقدم.
لذا فقد دفعتنا هذه العلاقات وشبكة الصداقة للعودة إلى اليونان اليوم في زيارات لتأسيس الملتقى التقدمي للتضامن اليوناني الفلسطيني بالشراكة مع عدد منهم الذين وكما معظم شعبهم يعشقون فلسطين. فالتضامن بين الشعوب يجب أن يكون بالاتجاهين، لأن قضايا الشعوب المستضعفين بالأرض هي واحدة تجمعها مفاهيم الإنسانية وقيم الحريات .
لقراءة الجزء الأول https://www.masar.ps/ar/Article/33