قبل نشوء الكيان الفلسطيني في الضفة وغزة، بموجب "اتفاق أوسلو" (1993)، لم يكن للفلسطينيين أية تجربة سياسية- كيانية في تاريخهم، أما اعتبار "منظمة التحرير الفلسطينية" بمثابة كيان سياسي لهم فهي كذلك، لكن من دون ممارسة أي من أشكال السيادة في إقليم متعين، ومن دون مؤسسات تدير مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج.
على ذلك، فإن مشكلة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة لا تنبع من افتقادها لكيان، فقط. وإنما أيضا من افتقادها حيزا جغرافيا مستقلا، وافتقاد شعبها للوحدة المجتمعية، وللوجود المستقل، إذ إن الفلسطينيين، كشعب، مجزؤون، ويخضعون لهيمنة كثير من الأنظمة، باختلافاتها السياسية والقانونية. ففي فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، وتحت هيمنة دولة واحدة هي إسرائيل، ثمة عدة معايير سياسية وقانونية إزاء الفلسطينيين، تتحكم في واقعهم وبأولوياتهم، بين فلسطينيي 48، وفلسطينيي الضفة، وفلسطينيي القدس، وفلسطينيي غزة، وهذا ينطبق على اللاجئين الفلسطينيين في بلدان اللجوء، فثمة فلسطينيو الأردن (كمواطنين)، وثمة فلسطينيو لبنان أو سوريا أو مصر، وكل مجتمع يختلف في ظروفه وشروطه عن الآخر.
هكذا فإن قيام سلطة فلسطينية في الضفة والقطاع لم يخفف من تلك المشكلة، فهي لم تتطور إلى دولة، وهي تحت هيمنة سلطة الاحتلال، وأيضا بحكم تأزم معنى الهوية الوطنية الفلسطينية ودلالاتها وحدودها، إضافة إلى أنها نشأت كسلطة على فلسطينيي الضفة وغزة، دونا عن باقي الفلسطينيين في الداخل والخارج.
الجدير ذكره، أن الحركة الوطنية الفلسطينية حرمت من ممارسة أي نوع من السيادة في الضفة والقطاع (قبل احتلالهما عام 1967)، رغم قيامها قبل ذلك، إذ بقيت السيادة على قطاع غزة لمصر وعلى الضفة الغربية للأردن وهذا ما سنأتي على ذكره لاحقا.
إشكاليات اللحظة التأسيسية
منذ انطلاقتها (1965) عرفت "فتح" ذاتها كحركة وطنية، تسعى لاستنهاض شعبها، وتحريره من واقع النكبة، وتخليصه من الوصاية العربية، وتنظيمه في كيان سياسي، وقيادة كفاحه من أجل تحرير فلسطين (ما يتضمن حق العودة)، متمثلة في كل ذلك الواقع السياسي والاجتماعي للفلسطينيين، الذين يعيشون في ظروف مرحلة تحرر وطني، بالتميز عن الأحزاب الطبقية أو الأيديولوجية، في سعيها لأن تكون بمثابة حركة الشعب الفلسطيني كله. بهذا المعنى، احتلت مفاهيم الوطنية والكيانية والاستقلالية الفلسطينية مكانة مركزية في الفكر والممارسة السياسيين لتلك الحركة، بمسيرتها المديدة، والصعبة، بما لا يقل عن مكانة الكفاح المسلح.
ما ينبغي لفت الانتباه إليه أن طريق "فتح"، بالتأسيس للوطنية الفلسطينية، المستقلة، لم يكن سهلا أو مفتوحا، إذ إن المنطقة العربية كانت وقتها خاضعة في الأغلب لتيار "القومية العربية"، بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، و"البعث" في سوريا والعراق، و"حركة القوميين العرب"، كما كانت تعج بالتيارات الأيديولوجية اليسارية والشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفياتي (السابق)، وكانت ثمة الحركات الإسلامية بنفوذها الواسع، ومع ذلك استطاعت تلك الحركة الوليدة، التي سبحت عكس التيارات السائدة، أن تفرض وجودها.
ولعل "فتح"، في اختيارها هذا توخت، إضافة إلى بعث الهوية الوطنية لشعبها، التعويض عن افتقادها لإقليم مستقل، بإقامة كيانية سياسية ترمم حال التمزق في واقع الشعب الفلسطيني، وتلم شتاته، ما يمهد لفرض وجوده على الخريطة السياسية، ولاحقا الجغرافية. هكذا، يسجل لـ"فتح"، أنها السباقة لحفر مفهومي الوطنية والكيانية السياسيين للفلسطينيين، كما يسجل لها التاريخ تجرؤها على المناخ السياسي العربي السائد في حينه.
أيضا، قد يجدر التذكير بأن مشروع الوطنية الفلسطينية، كما أسسته "فتح"، أتى متأخرا عن "الوطنيات" الناشئة بإقامة الدولة في البلدان العربية، ما وضعها، في كثير من المحطات والأحيان، في تعارض أو في تصارع معها، وهو ما حصل في الأردن ولبنان وسوريا. ومن جهة أخرى، فإن جزءا كبيرا من شعبية "فتح" يمكن إحالته إلى مقاومتها التدخلات الرسمية العربية في الشؤون الفلسطينية، واستنهاضها البعد الوطني في الصراع ضد إسرائيل، فيما بدا بمثابة ردة فعل على تغييب دور الفلسطينيين بدعوى "قومية" المعركة.
في المحصلة، فإن تلك الحركة التي نشأت وصعدت في الخارج وجدت نفسها مضطرة للتكيف، مع الشرط الرسمي العربي على اختلافه وتباينه بحسب كل بلد وسياساته وتوظيفاته، علما أنه في تلك الظروف الصعبة، ما كان بإمكان الفلسطينيين توليد حركة سياسية مستقلة تماما. أيضا، ما كان بإمكان الحركة الوطنية الفلسطينية أن تعتمد على شعبها، بحكم غياب الحقل الاقتصادي المستقل، بقدر اعتمادها على المعونات الخارجية، ما يلقي ضوءا على إشكاليات الوطنية والكيانية الفلسطينية، وتأزمها، منذ لحظة ولادتها إلى الآن. وفي الواقع فقد أثبتت التجربة صعوبة قيام حركة وطنية فلسطينية لا تحظى برضا النظام السياسي العربي، أي إن الحركة الوطنية الفلسطينية تدين بوجودها، من أوجه متعددة، إلى هذا النظام، وهي في أحوال عديدة استمرت بفضل تناقضاته وليس رغما عنه، كما قد يعتقد البعض.
عموما فإن تركيز "فتح" على الوطنية والكيانية والاستقلالية، في تقرير الخيارات الفلسطينية، لم يعن استبعادها البعد العربي للقضية الفلسطينية، إذ طرحت نظريتها للعلاقة بين البعدين الوطني والقومي في هذه القضية، باعتبارها أن "فلسطين جزء من الوطن العربي، والشعب الفلسطيني جزء من الأمة العربية، وكفاحه جزء من كفاحها"، وأن "الثورة الفلسطينية طليعة الأمة العربية في معركة تحرير فلسطين"، مع تأكيدها "الاعتماد على الشعب الفلسطيني كطليعة وأساس، وعلى الأمة العربية كشريك في المعركة". ومعروف أن "فتح" تجرأت، أيضا، على عكس الشعار الشهير المطروح آنذاك، باعتبار "الوحدة العربية هي الطريق لتحرير فلسطين"، إذ استبدلته بشعارها: "تحرير فلسطين هو الطريق للوحدة".
أطروحات الفكرة الوطنية والكيانية
تبعا لتلك المقدمة، من المفيد تفحص الأفكار الأساسية لـ"فتح" التي قادت الكفاح الفلسطيني، طوال قرابة ستة عقود، في بداياته ومآلاته، بإنجازاته وإخفاقاته، في مراحل صعوده وهبوطه، وصعودها وأفولها هي أيضا.
وفي وثيقة "المبادئ والأهداف والأسلوب"، وهي الوثيقة الأساسية للفكر السياسي لتلك الحركة، انطلقت "فتح" من اعتبار "فلسطين جزءا من الوطن العربي" المادة (1) وأن شعبها هو "صاحب الحق في تقرير مصيره والسيادة على جميع أراضيه" المادة (2)، وأن "القرارات التي صدرت أو تصدر عن هيئة الأمم المتحدة، أو مجموعة من الدول... والتي تهدر حق الشعب الفلسطيني في وطنه باطلة ومرفوضة" المادة (6)، لأن "الوجود الإسرائيلي في فلسطين هو غزو صهيوني عدواني وقاعدته استعمارية توسعية..." المادة (8).
أما الأهداف، كما حددتها "فتح"، فتتمثل في "تحرير فلسطين تحريرا كاملا وتصفية الكيان الصهيوني اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وثقافيا" المادة (12). وهذا طبيعي كونها انطلقت قبل حرب 1967، أي إن تعريفها لفلسطين كان كاملا ولم يكن يقتصر على الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع، أما حق العودة فقد كان متضمنا، بداهة، في هدف التحرير.
اللافت أن "فتح" تبنت مبكرا هدف "إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية... على كامل التراب الفلسطيني تحفظ للمواطنين حقوقهم... على أساس العدل والمساواة من دون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة" المادة (13)، بما يتضمنه ذلك من التمييز بين الصهيونية واليهودية، وتحرير اليهود من الصهيونية، وكانت تلك فكرة جريئة ورائدة آنذاك، إذ كان الفكر السياسي الفلسطيني يتعاطى مع هذه المسألة بنوع من الإنكار، على اعتبار أن أي مقاربة، في هذا الاتجاه قد تثير الشبهات، أو ربما توحي بإضفاء الشرعية على إسرائيل. اللافت أن تلك المبادئ نصت، أيضا، على "مقاومة الحلول السياسية المطروحة كبديل عن تصفية الكيان الصهيوني" المادة (22).
أيضا، في هذه المرحلة، بدت "فتح" أكثر جرأة على طرح فكرة الكيانية، في مقابل الوصاية العربية، ولكن مشكلة ذلك الطرح أنه أتى بعد فوات الأوان، أي بعد احتلال إسرائيل للضفة والقطاع (1967) وليس قبل ذلك، وهو ما تمثل بحذف المادة (24) من "الميثاق القومي الفلسطيني" في "الميثاق الوطني الفلسطيني"، الذي حل محل سابقه (1968)، وهي كانت تنص على الآتي: "ﻻ ﺗﻤﺎرس المنظمة أﻳﺔ ﺳﻴﺎدة إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻀﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ في المملكة اﻷردﻧﻴﺔ اﻟﻬﺎﺷﻤﻴﺔ. وﻻ قطاع ﻏﺰة، وﻻ منطقة الحمة. وﺳيكون نشاطها ﻋﻠﻰ المستوى القومي اﻟشعبي في الميادين اﻟﺘﺤﺮﻳﺮﻳﺔ والتنظيمية واﻟﺴﻴﺎﺳية والمالية". وكانت تلك المادة بمثابة ثغرة كبيرة في "الفكر السياسي الفلسطيني"، إذ عبرت عن تخلي الفلسطينيين عن حقهم ومسؤوليتهم عن أرضهم للأنظمة العربية. لذا جاء "الميثاق الوطني" ليصحح ذلك في مادتين. إذ أكدت المادة (28) في "الميثاق الوطني" الجديد، "رفض كل أنواع التدخل والوصاية والتبعية". والمادة (29) في النص بأن "الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الحق الأول والأصيل في تحرير واسترداد وطنه، ويحدد موقفه من كافة الدول والقوى على أساس مواقفها من قضيته، ومدى دعمها له في ثورته لتحقيق أهدافه". لكن ذلك الأمر أتى بعد أوانه، كما قدمنا.
أيضا، فيما بعد، وعندما وجدت القيادة الفلسطينية نفسها في مواجهة تحدي الوصاية والتهميش، بعد أحداث سبتمبر/أيلول 1970، بخاصة مع طرح الأردن فكرة "المملكة العربية المتحدة"، استنفرت "فتح" ودعت إلى دورة طارئة (العاشرة) لـ"المجلس الوطني الفلسطيني" (القاهرة 1972)، وإلى مؤتمر شعبي فلسطيني، كان من مقرراته: "الرفض الكامل لمشروع إقامة المملكة العربية المتحدة، امتدادا للرفض الفلسطيني القاطع والمستمر لكل مشروع يرمي إلى تصفية القضية الفلسطينية والتخلي عن أي جزء من الأرض الفلسطينية". وأن "منظمة التحرير... هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني... وأنه لا يحق لأي كان أن يقرر بشأن فلسطين أرضا وشعبا".
من جهة أخرى، وكرد على سعي إسرائيل تصدير قيادات محلية بديلة من قيادة المنظمة، أعلن "المؤتمر الشعبي الفلسطيني" أن "إجراء انتخابات المجالس البلدية والمحلية في الضفة الغربية المحتلة... يستهدف شق وحدة الشعب الفلسطيني ودفعه إلى التقاتل فيما بينه من أجل القضاء على شخصيته الموحدة ووجوده الوطني وثورته الشعبية المسلحة". و"على الرغم من أن رؤساء وأعضاء المجالس البلدية والمحلية ليست لهم أي صفة تمثيلية سياسية. فإن الاحتلال الصهيوني يمهد لإعطائهم صفة تمثيلية تتجاوز مهام صلاحياتهم، بل تتجاوز حدود الضفة الغربية أيضا. والهدف من ذلك هو تأمين غطاء للمتعاونين مع الاحتلال، وإقامة تمثيل مزيف للشعب الفلسطيني وخلق بديل فلسطيني لتمرير مشاريع تصفية قضية فلسطين والحقوق التاريخية لشعب فلسطين".
تلك هي في العموم الأفكار الأولية التي شكلت هوية "فتح"، وميزتها، وأسهمت في تعزيز شعبيتها، وهي اتسمت بالبساطة، والاختزال، والأفق المفتوح، وبالنأي عن الخلفيات الأيديولوجية، التي عرفت فيها الفصائل الأخرى، سيما اليسارية، بغض النظر عن رأينا فيها، أو عن مدى مقاربتها لإشكاليات وتعقيدات ومداخلات القضية الفلسطينية وواقع الشعب الفلسطيني، وشروط حركته الوطنية، وضمن ذلك مأزقها الكياني والهوياتي.
النكوص عن الأفكار المؤسسة
بيد أن "فتح"، في غضون المسيرة الصعبة والطويلة والمكلفة، ومع التحولات في الإطارين العربي والدولي، لم تستطع الاستمرار بأفكارها المؤسسة، من الناحية العملية، أي بغض النظر عن البيانات والشعارات، إذ اضطرت لإدخال تغييرات نوعية عديدة عليها، حتى إن ثمة أفكارا ومنطلقات وأهدافا تم شطبها نهائيا، لكن هذا الأمر حصل بعد انتهاء ظاهرة المقاومة المسلحة في الخارج، وتحول مركز ثقل العمل الفلسطيني إلى الداخل، بعد الانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993)، ولا سيما بعد عقد "اتفاق أوسلو" (1993) وإقامة كيان السلطة، وعلى وجه الخصوص بعد رحيل قائدها ياسر عرفات.
ويمكن التأريخ لتحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرير إلى حركة استقلال وطني باحتلال إسرائيل باقي الأراضي الفلسطينية، في حرب 1967، خاصة مع الاعتراف العربي بوجود إسرائيل، وبالتحول من التحرير إلى إزالة آثار عدوان 1967. وقد تكرس هذا التحول نهائيا بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، مع الأفكار التي انتشرت بشأن إمكان تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي بناء على نتائج تلك الحرب. لكن العامل الذاتي لذلك التحول أتى بقوة دفع الانتفاضة الفلسطينية (أواخر 1987-1993) فهي التي وفرت الشرط الذاتي لتقديم هدفي الحرية والاستقلال على هدف العودة، وعلى هدف التحرير، بسبب الخارطة السياسية والجغرافية والبشرية للانتفاضة، وبسبب المحددات الموضوعية والسياسية لهذه المسألة.
معلوم أن "فتح" عقدت سبع مؤتمرات عامة منذ تأسيسها، الأول 1964 (الذي حدد تاريخ الانطلاقة). الثاني 1968 (بعد حرب 1967). الثالث 1971 (بعد الخروج من الأردن). الرابع 1980 (في دمشق). الخامس 1988 (تونس، بعد الخروج من بيروت). السادس 2009 (في بيت لحم، بعد خمسة عشر عاما على إقامة السلطة في الضفة وغزة ورحيل ياسر عرفات). السابع 2016 (في رام الله، في ظل قيادة محمود عباس للمنظمة والسلطة و"فتح").
بناء على ذلك ثمة ملاحظتان. الأولى، أن "فتح" حافظت على المبادئ الأساسية المذكورة، بتضمينهـا في الوثـائـق الصـادرة عن مؤتمـرات "فتح" الخمسة الأولى، وضمنها الرابع (1980) والخامس (1988)، رغـم أن تلك الأفـكـار تم التـراجـع عنـها في الوثـائق الرسـمية الصـادرة عن "منظمـة التحرير الفلسطينية"، التي تقودها "فتح"، بزعامة ياسر عـرفـات، والتي باتت تتـبنـى، منـذ الـدورة الـ12 لـ"المجلس الوطني الفلسطيني"، و"البرنامج المرحلي" (1974)، المتضمن إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع المحتلين (1967)، في تحول من هدف التحرير إلى هدف إقامة سلطة أو دولة في أي جزء يجري تحريره، ثم تم اختزال ذلك بحق تقرير المصير والعودة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية، علما أن التركيز، عمليا، على إقامة دولة في الضفة والقطاع.
ولعل ذلك يكشف روح المناورة عند القيادة الفلسطينية، وعدم مبالاتها بالإنشاءات مقابل تركيزها على السياسات العملية، وتمييزها بين الشعارات والخيارات. وهذه واحدة من أهم سمات عمل القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة والسلطة و"فتح" في آن واحد). والمعنى أن قيادة "فتح" ظلت تتعمد التورية، والحديث بلغة مزدوجة، حتى ذلك التاريخ، بل إن مقررات المؤتمر السادس الذي عقد في بيت لحم (2009)، بعد إقامة السلطة (1994)، وبعد رحيل ياسر عرفات (2004)، تضمنت انتهاج "فتح" لكل أشكال النضال وضمنها الكفاح المسلح! وبديهي أن هذا مجرد كلام إنشائي، الغرض منه ترضية قواعد الحركة وجمهورها، لا سيما مع واقع التنسيق الأمني مع إسرائيل، بحسب "اتفاقات أوسلو".
الملاحظة الثانية، مفادها أنه إذا كان المؤتمر العام الرابع لـ"فتح" (1980)، لم يمرر في مقرراته "البرنامج المرحلي"، الذي بات معمولا به، منذ عام 1974، في منظمة التحرير، التي تهيمن عليها "فتح"، بتأكيدها أنها "حركة وطنية ثورية هدفها تحرير فلسطين... وتصفية الكيان الصهيوني... وإقامة دولة ديمقراطية... تحفظ لجميع المواطنين حقوقهم الشرعية على أساس العدل والمساواة دون تمييز"، فإن قيادة هذه الحركة تحايلت على ذلك، بتمريره في المؤتمر الخامس (1988)، الذي عقد في تونس، بعد الخروج من لبنان، وانتهاء ظاهرة المقاومة المسلحة من الخارج، وفي مناخات الانتفاضة الأولى بعد أن كانت مررته في المنظمة كما ذكرنا. بيد أن هذا المؤتمر لم يصل إلى حد إزاحة المبادئ الأولية للحركة، إذ إن لغة الخطاب ظلت مزدوجة، حيث تم صوغها بطريقة لا تقطع مع المبادئ من جهة، وتوصل أو تمرر الجديد أو الدخيل على الفكر السياسي لهذه الحركة.
وفي الحقيقة، فإن إزاحة تلك المبادئ، أو النكوص عنها، تحقق في المؤتمرين السادس والسابع، بعد إخفاق الانتفاضة الثانية (2000-2005)، ورحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الذي صاغ "فتح" على طريقته، وحافظ على ازدواجية خطابها، وفق فهمه لدوره النضالي ومكانته الشعبية ورمزيته التاريخية، وانتهاء الازدواجية الوطنية في عهد الرئيس محمود عباس. وقد سهل هذا النكوص، في حينه، ارتهان القيادة الفلسطينية لخيار السلطة والمفاوضات، وعدم اعتمادها خيارات أخرى، وظهور منافس لـ"فتح" على القيادة هي "حماس"، ووجود طبقة سياسية، باتت متقادمة، ومستهلكة، ومعنية باستمرار الوضع الراهن، ولو بثمن التخلي عن الفكرة الوطنية التي مثلتها "فتح".
ومثلا، فقد تمخض المؤتمر السادس لـ"فتح"، الذي عقد في ظل السلطة، في الأراضي المحتلة (بيت لحم 2009)، عن إزاحة المبادئ المذكورة من الوثائق الصادرة عن المؤتمر، بعد 13 عاما على تعديل "الميثاق الوطني" (بقرار من "المجلس الوطني"، غزة 1996)، و16 عاما على توقيع "اتفاق أوسلو" (1993)، وعقدين على تبني برنامج "الحرية والاستقلال" (الجزائر 1988)، و35 عاما على إقرار "البرنامج المرحلي".
الآن، باتت حركة "فتح" من خلال قيادتها للسلطة والمنظمة أكثر جرأة على تخطي أفكارها الأولية المؤسسة، وزعزعة الفكرة الوطنية الجامعة، التي تطابق بين الشعب والأرض والقضية، باختزالها كل المسألة في إقامة دولة لجزء من الشعب في جزء من الأرض مع جزء من الحقوق، وبتفكيكها مفهوم وحدة القضية، ووحدة الشعب، كنوع من تقدمة، بوهم إمكان قبول إسرائيل إقامة كيان فلسطيني في 22 في المئة من أرض فلسطين، بل واعتبار الصراع بأنه مع إسرائيل التي تحتل أراضي الدولة الفلسطينية، وأن المسألة تتعلق باستقلال تلك الدولة وارتقاء عضويتها في الأمم المتحدة من عضو مراقب إلى عضوية كاملة وهي فقرة باتت تتكرر كلازمة في مقررات المجالس الوطنية والمركزية الفلسطينية.
وفي المقابل، فإن إسرائيل لم تتوقف يوما عن التعامل مع قضية فلسطين، وشعب فلسطين، إلا كوحدة متكاملة، رغم انتهاجها سياسات مختلفة إزاء كل جزء، بواقع حرب الإبادة التي تشنها على غزة، وموازاتها التي تشنها بطرق أخرى في الضفة والقدس، وضد فلسطينيي 48، لإخضاع الشعب الفلسطيني كله، من النهر إلى البحر، وتغييبه أو ترحيله. يأتي ضمن ذلك الحط من مكانة السلطة الفلسطينية، التي تنسق معها أمنيا وإداريا واقتصاديا.
خاتمة عن أفول "فتح" وأفكارها
الآن، تقتضي الموضوعية الاستنتاج بأن "فتح" التي أطلقت الكفاح المسلح، هي التي أنهته، لصالح خيار المفاوضة والتسوية. وأن هذه الحركة التي عززت مكانة منظمة التحرير، كممثل شرعي ووحيد للفلسطينيين، هي التي همشتها وغيبتها لصالح سلطة، تحت الاحتلال. وأن هذه الحركة التي بعثت الفلسطينيين شعبا، وصنعت هويتهم وكيانيتهم السياسية، هي التي أضعفت إدراكات الفلسطينيين لكونهم شعبا، بإخراجها اللاجئين الفلسطينيين من معادلاتها، علما أنها كانت استبعدت فلسطينيي 48 من المعادلات السياسية الفلسطينية منذ بداياتها، بتعريفها لهم بدلالة مواطنيتهم الإسرائيلية وليس بدلالة كونهم جزءا من شعب فلسطين.
المشكلة أن كل ذلك لم يحصل استجابة لسياقات التطور الطبيعي، أو في سياق تكيف اضطراري مع التحولات الحاصلة فيها أو المحيطة بها، فقط، إذ إن ذلك حصل أيضا بفعل قوة دفع ذاتية، ناجمة عن ثقافة معينة وبنى وعلاقات قامت عليها، أو انزاحت إليها، تلك الحركة.
الآن، يبدو الفلسطينيون أبعد من أية فترة مضت عن إمكان إقامة دولة فلسطينية مستقلة لهم، فإسرائيل تصارعهم على كل شبر، من النهر إلى البحر، كما تصارعهم على السردية التاريخية، وعلى وأد أي كيان سياسي لهم، في حين باتوا هم في فراغ سياسي، متعدد الأطراف، فثمة فراغ في القيادة، وفي الكيانية، بعد تهميش منظمة التحرير، وبعد تهشيم إسرائيل للسلطتين في الضفة وغزة، يشمل ذلك تفكك مفهوم وحدتهم كشعب، مع افتقادهم لرؤية وطنية جامعة ولاستراتيجية كفاحية ممكنة ومستدامة.
بعد حرب غزة، ثمة كثير مما يمكن قوله، أو فعله، فما بعد هذه الحرب ليس كما قبلها، مع "فتح" أو "حماس" أو الجبهات، أو أي كيانات سياسية أخرى.