كان ذلك قبل وقت قصير من تناول وجبة الغداء في بيت صديقي، فتحي البس، صاحب «دار الشروق» للنشر والتوزيع، قبل ثلاثة أيام، حين وقع نظري على نسختين من كتاب «كتابة خلف الخطوط ـ يوميات الحرب على غزة» الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية قبل أيام. استعرت إحدى النسختين، بعد قراءة فقرات من مادة الكتاب، لفتت انتباهي، وأعجبتني، وأثارت فضولي، كونها مادة أدبية، بكلمات بسيطة صادقة، دون فذلكات لغوية، تروي حكايا وواقع ناس عاديين، في ظل واقع حقيقي لكنه غير عادي أبداً، في زمن دموي حزين وصعب، تفيض فيه المشاعر.
مادة الكتاب، (273 صفحة) هي مقدمة كتبها وزير الثقافة الفلسطينية، الروائي عاطف أبو سيف، وأربعة وعشرون قطعة أدبية راقية، كتبها، وكتبتها، أربعة وعشرون كاتبا وكاتبة، من كافة التخصّصات الأدبية، وزيّنتها لوحة الغلاف الحزينة، إضافة للوحة حزينة واحدة لكل قطعة أدبية، وجميعها بريشة الفنّان التشكيلي، ميسرة بارود، وجميع هؤلاء من الفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة، (وغالبيتهم العظمى، أصلاً، من اللاجئين هناك) عايشوا الحرب الإسرائيلية الدموية الدائرة على قطاع غزة.
لا تنبع أهمية مادة الكتاب من مجرّد أنها كتابات عن الحرب في زمن الحرب، ولا لمجرّد كونها كتابات عن بركان من فوق فوّهة البركان. إنها كتابات من قلب البركان نفسه وهو يتفجّر ويُلقي بحممه الحارقة في كل اتجاه، ويحتل المركز الأول والأهم في العالم، على مدى أكثر من أربعة أشهر، حتى الآن، بنهاراتها الأطول من الشهور، ولياليها الأطول من السنين، وعذاباتها التي تفوق كل خيال مهما كان جامحاً.
اختلطت في الكتابات حكايا وقصص تروي حقيقة تشبّث بسطاء الفلسطينيين بأرض الوطن، رغم كل المعيقات، ورغم عنف، وبطش، وإجرام، ودموية جيش الاحتلال والاستعمار. اختلطت في الكتابات حكايات المقاومة الإيجابية والسلبية، في الصدّ والرّد والرفض لأهداف العدو الذي يحاصر القطاع من الجهات الخمس، ولم يبقَ للمقاومين إلا الجهة السادسة: فحفروا الأنفاق من الجهة السادسة تحت الأرض، ولتكون إنجازاً عبقرياً يفرض نفسه على جميع الكليات العسكرية، ليتعلّم جنرالات جيوش العالم فنّ مقاومة الغزاة المستعمرين. اختلطت، في هذه الكتابات، حكايا وقصص المعاناة للحصول على كِسرة خبز تسدّ جوع طفل، وشربة ماء تروي الريق، ورداء يقي من البرد.
بدأتُ قراءة الصفحة الأولى من الكتاب في ساعة متأخرة من مساء يوم الإثنين، وانتهيت من قراءة الصفحة الأخيرة بعد بزوغ فجر يوم الثلاثاء، أمس الأول، ولم أكن أتوقع المفاجأة التي أذهلتني عندما استيقظت.
أبدأ يومي، عادة، بتصفح صفحات جريدة «هآرتس» الإسرائيلية. وفي يوم الثلاثاء هذا بالذات، وحتى عندما كانت تدور في ذهني معاناة الجوع لأهل غزة الذين أجبرهم جيش الاحتلال والاستعمار على مغادرة بيوتهم، وقعت عيني على عنوان تقرير صحافي تقول كلماته: «في كل بيت دخلناه في غزة وجدنا زيتوناً وزيت زيتون وكميات من البهارات. نحن نطبخ هنا بمشاعر مختلطة».
كاتب التقرير هو الصحافي الإسرائيلي إيتان ليشِم، (هآرتس، 13.2.2024) ويقول في بداية تقريره: «يجد جنود كتيبة الاحتياط، الذين تم استدعاؤهم للخدمة العسكرية منذ أربعة أشهُر، يطبخون في بيوت أهل غزة (الذين تم ترحيلهم) وتحوِّم فوق رؤوسهم معضلات أخلاقية». ويتابع: «من هم هؤلاء الجنود؟ هم ندَاف شوشان، محامي، 37 سنة، متزوج + ولد واحد، وعيلام نوسباوم، 37 سنة، معلّم ومدرّب رياضة، يخدمان في القسم الثامن من الكتيبة 8110 من اللواء الخامس، و..»..
يقول ليشِم في صلب تقريره الصحافي: «هناك مجموعة من الجنود برئاسة نداف، مسؤولة عن الطبخ (الطهي) وعن ضرورة أن نأكل بشكل جيد. ويقول عيلام: أنا ملزم، كقائد، أن أقول: هذا كان مصدر قوّتنا، لأننا كلما تناولنا طعاماً جيداً، تمكّنا من القتال بشكل أفضل».
ثم يسأل الصحافي ليشِم الجندي الإسرائيلي عيلام: «هل يمكنك أن تخبرنا قليلاً عن مشاعرك وأنت تطبخ في بيت عائلة غزّاوية، ومعرفتك أنها طردت من بيتها أو اضطرت للفرار منه؟» ويجيبة عيلام: «لا شك ان هناك مشاعر متضاربة. ففي النهاية أنا أستخدم أدواتهم في منزلهم وهم ليسوا هنا. لكن، من ناحية أُخرى، علينا أن نأكل، وتزداد رغبتنا في تناول الطعام، ويجب التوضيح: هذه منازل مهجورة، بعضها تم تدميره، وبعضها في طريقه إلى الهدم، وهذه هي الطريقة التي يقاتل بها جيش الدفاع الإسرائيلي».
يسأل كاتب التقرير الصحافي ليشِم الجندي ندَاف: «ماذا تجد في هذه المطابخ؟». ويجيبه ندَاف: «المطبخ الغزّاوي مليء بالتوابل من جميع الأصناف. ووجدنا الكثير من العدس والبرتقال وغالونات زيت الزيتون… ودبس الخرّوب و..»..
أهل غزة طردوا من بيوتهم، وجاعوا، هم وأطفالهم، وجنود جيش الاحتلال والاستعمار يستمتعون باستخدام أوانيهم ومطابخهم وبكل ما فيها من مؤونة.
ثم، إلى السياسة، وتقدير ما قد نضطر لمواجهته. لكن، وبداية، لا يضيرنا تسجيل ملاحظة:
اعتاد كتاب ومفكرون كثيرون، لهم تأثير كبير على تشكيل الرأي العام، على ترديد توصيف الحكومة الإسرائيلية الحالية، بأنها «الحكومة الأكثر عنصرية وتطرفاً» في الحكومات الإسرائيلية منذ إعلان إقامتها سنة 1948.
في هذا التوصيف شيءٌ ما من الدِّقة. لكنه ليس دقيقاً تماماً. ولكي يصبح هذا التوصيف دقيقاً بالكامل، يجب إعادة صياغته، ليصبح أن «حكومة نتنياهو الحالية هي الحكومة الأكثر صراحة في إعلان عنصريتها» علناً، وعلى رؤوس الأشهاد».
الحكومة الإسرائيلية الأولى، حكومة دافيد بن غوريون، كبّدت الشعب الفلسطيني شهداء وضحايا بأعداد تفوق كثيراً، (في نسبتها لتعداد الفلسطينيين بين 1948 و2024) ما تشهده هذه الأيام في مجازر غزة وجرائم المستوطنين/المستعمرين وجيش الاحتلال (1948) والاستعمار (1967) الإسرائيلي، في الضفة الغربية.
لكن بن غوريون وحكومته وجيشه، كانوا يقتلون ويذرفون الدموع (!) ويحرصون على التّمترُس على «رقعة الضّحية».
ثم، عن التهجير: هجّرت حكومة إسرائيل الأولى، نحو نصف أبناء الشعب الفلسطيني، بذريعة أنهم هاجروا من مدنهم وقراهم طواعية(!) وتنفيذاً لأوامرالجيوش العربية و«جيش الإنقاذ».
ذلك أن جميع الحكومات الإسرائيلية عنصرية وفاشية، لكنها كانت أكثر ذكاءً من الحكومة الحالية وتخفي حقيقة سياساتها وأفعالها. يقتلون، ويتظاهرون بالبكاء. حكومات نتنياهو، والحالية بشكل خاص، يقتلون ويرقصون. وماذا يهم الضحية إن كان قاتلها يذرف الدمع أو يرقص انتشاءً وفرحاً؟
كل حكومات إسرائيل، وخاصة منذ انتصار إسرائيل في حرب حزيران/يونيو 1967، ترفض الجنوح إلى أي تسوية وبداية دفع الاستحقاقات الشرعية والمشروعة للشعب الفلسطيني، ولبناء مستقبل من الهدوء والاستقرار. إنها حكومات تدفع تحمّل المسؤولية عن الاحتلال والاستعمار إلى من يأتي بعدها. (ربما مع استثناء واحد وحيد: حكومة اسحق رابين الثانية، في بداية التسعينيات).
هذه السياسة الإسرائيلية العاقر والحمقاء، قادت إلى تكبيد إسرائيل وشعبها 6 أكتوبر 1973، ولحقها 7 أكتوبر 2023، فهل ينتظرون الاستيقاظ على 8 أكتوبر؟.
التركيبة السياسية الإسرائيلية الحالية لا تبشّر بخير. فالمعارضة لا تختلف جوهرياً عن الإئتلاف الحاكم:
ـ غانتس، في أول جولة له في العمل السياسي الحزبي تفاخر بأنه قتل من الفلسطينيين أكثر من مجموع ما قتله جميع رؤساء الكتل الحزبية المنافسة.
ـ لابيد، لم يتقدم مليمتراً واحداًعلى طريق تحقيق التسوية المعقولة كخطوة لحل ما يترتب على ذلك.
ـ بينيت، صاحب مقولة «قضية الفلسطينيين ليست أكثر من شوكة في المؤخرة»؛ ولن نتقدم لأي مفاوضات إلا «عندما يجيء الفلسطينيون للتفاوض بدافع اليأس».
هذه هي صورة الوضع السياسي الراهن في إسرائيل.
لكن سقوط حكومة نتنياهو وائتلافه العنصري الحاكم، المؤكد، فور انتهاء الحرب على غزة، سيقود الى انتخابات جديدة، وقد تتشكل كتلة سياسية أكثر عقلانية، يمكن لها أن تبشّر بعكس اتجاه السياسة الإسرائيلية، وتضطرها الى التعامل مع الواقع، ومع الاعتراف الجدّي بكل الحقوق الطبيعية والشرعية لشعبنا الفلسطيني.