حرب الجنوب… استمرار لسياسة اغتيال الحريري

بين اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005 و14 شباط 2024، خطّ مستقيم وغليظ لم يتغيّر فيه شيء. لم يتغيّر شيء منذ عام 2005 بوجود خطّ إيرانيّ واضح كلّ الوضوح يستهدف وضع اليد على لبنان نهائياً.

تعبّر عن عملية وضع اليد هذه الحرب الدائرة في جنوب لبنان وقول وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في أثناء وجوده في بيروت قبل أيّام: “أمن لبنان من أمن إيران”. يعني ذلك بكلّ بساطة أنّ لبنان صار خطّ دفاع عن النظام الإيراني. خطّ بين خطوط عدّة أخرى في العراق وسوريا ولبنان واليمن. تلك هي وظيفة لبنان التي بات وزير الخارجية الإيراني يتحدّث عنها علناً في وقت يكتشف اللبنانيون أنّ بلدهم سيكون بين ضحايا حرب غزّة بغضّ النظر عن نتائج تلك الحرب.

جاءت الحرب الدائرة في جنوب لبنان، وهي حرب خلّفت دماراً في قرى جنوبيّة عدّة وتهجيراً لما يزيد على مئة ألف مواطن من بيوتهم، لتؤكّد أنّ على لبنان أن يدفع مجدّداً ضريبة تحوّله إلى “ساحة”. دفع رفيق الحريري غالياً ثمن محاولته إخراج  لبنان من دور “الساحة”. فعل ذلك عن طريق الرهان على تعافي بيروت وعودتها لتكون مدينة متألّقة عربياً ودولياً من جهة وعودة الدورة الاقتصادية إلى البلد من جهة أخرى. كانت الضرورة الإيرانيّة تقضي بوضع حدّ لهذا المشروع، بل القضاء عليه. بين الأسباب التي دعت إلى التخلّص من الرجل في مرحلة معيّنة خشية انتقال العدوى اللبنانيّة إلى سوريا نفسها حيث خشية دائمة لدى النظام الأقلّويّ من أيّ خروج من دائرة اللاحرب واللاسلام التي ميّزت عهد حافظ الأسد وتحكّمت بعد ذلك بكلّ تصرّفات ابنه بشّار مع فارق مهمّ. يدلّ على هذا الفارق الانخراط الكلّيّ لبشار، على خلاف والده، في المشروع الإيراني في المنطقة، خصوصاً في ما يتعلّق بلبنان وبتغطية اغتيال رفيق الحريري والجرائم الأخرى التي تلتها!

كانت إسرائيل في كلّ وقت لاعباً محورياً في جنوب لبنان. لم تعترض يوماً على بقاء مسلّحين فيه. اهتمّ الإسرائيلي دائماً، منذ ما قبل توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في تشرين الثاني 1969، ببقاء الجنوب ينزف وصندوق بريد لتبادل الرسائل مع منظمة التحرير الفلسطينية والنظام السوري في مرحلة معيّنة ومع إيران في مرحلة لاحقة. لا تزال توجد إلى الآن، أقلّه نظريّاً، “قواعد اشتباك” بين الحزب وإسرائيل. يتحدّث مسؤولو الحزب علناً بين حين وآخر عن هذه القواعد، علماً أنّ الجديد في الأمر بروز الحاجة إلى قواعد جديدة في ضوء التغيير الداخلي الإسرائيلي الذي فرضته حرب غزّة.

بكلام أوضح، لا يمكن التعاطي مع إسرائيل بالطريقة نفسها التي كان معمولاً بها قبل “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل 2023). ثمّة صفحة طُويت، هي صفحة بقاء الوضع في جنوب لبنان رهينة تفاهمات إيرانيّة – إسرائيلية تُوّجت في عام 2022 بترسيم الحدود البحريّة اللبنانيّة – الإسرائيليّة. ثمّة مرحلة جديدة مختلفة لا يمكن تجاهلها فرضتها حرب غزّة.

من هذا المنطلق، يبدو واضحاً أنّ هناك بحثاً عن تفاهمات جديدة بين إيران وإسرائيل في ما يخصّ جنوب لبنان. مثل هذا البحث يفسّر الترويج الفرنسي وغير الفرنسي، لانسحاب للحزب ومقاتليه إلى خلف نهر الليطاني في إطار ما يسمّى تنفيذ بنود القرار الرقم 1701 الذي يجعل من “منطقة عمليات” القوة الدولية في جنوب لبنان منطقة لا وجود فيها لسلاح غير سلاح الجيش اللبناني.

سيؤدّي ذلك في طبيعة الحال إلى تكرارٍ لسيناريو ما بعد حرب صيف عام 2006 وصدور القرار 1701 الذي التزمه الحزب لبعض الوقت بغية التقاط أنفاسه. وقتذاك ارتدّ الحزب على الداخل اللبناني من منطلق أنّه حقّق “انتصاراً إلهيّاً” على إسرائيل… في حين أنّ الانتصار الفعليّ كان على لبنان واللبنانيين وصبّ في استمرار الخطّ السياسي الذي وُلد من رحم اغتيال رفيق الحريري قبل 19 عاماً.

يمرّ هذا الخطّ في استخدام حرب صيف 2006 من أجل الاعتصام في وسط بيروت والتغطية على جريمة اغتيال مَن أعاد الحياة إلى المدينة التي انتهكت “الجمهوريّة الإسلاميّة” حرمتها في السابع من أيار 2008… وصولاً إلى اتفاق الدوحة الذي لا تزال مفاعيله مستمرّة إلى اليوم. هذه المفاعيل أخذت بُعدها الحقيقي مع إيصال الثنائي ميشال عون – جبران باسيل إلى قصر بعبدا تكريساً للواقع الجديد في لبنان. إنّه واقع أنّ إيران تقرّر من هو رئيس الجمهوريّة المسيحي في لبنان، وإلّا لا رئيس للجمهوريّة بعد الآن.

في ظلّ استمرار موازين القوى الإقليميّة على حالها، يبدو لبنان أمام خيارين أحلاهما مرّ، لا لشيء إلّا لأنّ تراجع الحزب إلى خطّ الليطاني لا يعني سوى تكريسٍ لمفاعيل جريمة اغتيال رفيق الحريري والاغتيالات الأخرى التي بدأت بسمير قصير ولم تنتهِ حتماً باغتيال محمّد شطح ولقمان سليم قبل ثلاث سنوات.

لم تعد مشكلة لبنان في الجنوب فقط. لا يمكن حلّ معضلة الجنوب من دون خروج البلد عن الخطّ الذي وضعته له إيران منذ ما قبل 14 شباط 2005. من دون الخروج عن هذا الخطّ وما فرضته محطّاته المختلفة، يبدو التغيير في لبنان مستحيلاً. إنّه تغيير مستحيل ما دام حزب السلاح يسيطر على البلد ومؤسّساته ويهمّش كلّ طوائفه، بدءاً بالسُّنّة والمسيحيين والدروز وكلّ صوت شيعي يتحدّث بلغة المنطق. تقول لغة المنطق إنّ الانخراط في حرب غزّة انخراطٌ في أجندة إيرانيّة لا هدف لها سوى عقد صفقات مع “الشيطان الأكبر” الأميركي و”الشيطان الأصغر” الإسرائيلي على حساب كلّ ما هو عربي في المنطقة.


 

Loading...