هل هي رؤية لحل الصراع أم لاستكمال مخططات السيطرة على المنطقة.

رغم تناقضات المواقف اللفظية للإدارات الأمريكية وتخبطها في شأن إدارة ملف إدارة الصراع في بعض الأحيان، إلا أن هذه الإدارات لا تنطلق في مواقفها من نزوات سياسية أو اجتهادات لحظية أو حتى بما له علاقة بمواقف قد تكون شخصية للرؤساء الأمريكان.

المخططات الأمريكية ومن خلفها رؤية الانجلوساكسونيين أصحاب العرق الأبيض ونظريتهم الفوقية وما يستندون له من ما سُمي بحضارة الغرب، يعتمدون استراتيجيات طويلة الأمد بهدف الوصول إلى تنفيذ رؤيتهم بالسيطرة على عالمنا هذا بما فيه المنطقة التي نعيش فيها نحن لخدمة ما يحقق مصالحهم وبالمقدمة منها ما له علاقة بجوهر الفكر الاستعماري المتعدد الأشكال، ويساهم في ذلك التوافق القائم بين التفوق العرقي الأبيض واليهودي. ولذلك فان العمل ما زال جاري على ما تم الحديث عنه قبل عقدين حول مضمون الشرق الأوسط الجديد بهدف تفوق إسرائيل وفق مبررات نشأتها الاستيطانية قبل 76   عاماً، وهذا ما تم التمهيد له بالخريف العربي وتدمير الدولة الوطنية العربية وإلحاق أخرى باتفاقيات أبراهام للتطبيع، وتقديم كل أشكال المساعدة والحماية والحصانة أمام القانون الدولي والقرارات الدولية لتمكينها من أن تبقى دولة مارقة فوق القانون.

صراع جيوسياسي

الولايات المتحدة تخوض صراعاً جيوسياسياً مع روسيا والصين، بل وحتى مع مفاهيم ورؤية الحضارة الشرقية بشكل عام التي ننتمي نحن الفلسطينيون لها ولتراثها. وهي ترى في حماية إسرائيل جزءً هاماً في هذا الصراع باعتبارها خط الدفاع لحماية الحضارة الغربية من الحدود الشرقية الجنوبية والقاعدة الإستراتيجية المتقدمة لسياسات الولايات المتحدة التي ترى فيها قاعدة لها، فهزيمة إسرائيل هي هزيمة للولايات المتحدة والغرب عموماً لاعتبارات تتعلق بمحددات العلاقة التي تجمع إسرائيل مع هذا التكتل الجيوسياسي الدولي ولأسس نشؤ الدولة التي تجمعهما من التمييز العنصري والتطهير العرقي، ولهذا فان الولايات المتحدة لن تلجم دولة الاحتلال رغم إمكانها ذلك لو أرادت، فهي الدولة اليهودية بالنسبة لهم التي يجب أن تبقى وتستمر قوية. كما هنالك نظم سياسية أخرى يجب أن تبقى بمحاور أساسية لخدمة الأهداف التي تحدثنا عنها كأوكرانيا وتايوان وكولومبيا وغيرهم من بؤر التوتر التي تنشئها الولايات المتحدة وتقدم لها الدعم كما حصل قبل أيام بدفع 95 مليار دولار لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان. فلا يمكن النظر إلى الحراك السياسي الدولي في مناطق مختلفة بالعالم دون ترابط، وذلك وفق الفهم الذي أشرت له من مجريات الصراع الجيوسياسي الدولي القائم.

رؤية الدولة الفلسطينية 

لقد كثر الحديث والتصريحات مؤخراً عن إمكانية الاعتراف بدولة فلسطينية في الأوساط الأمريكية والغربية، حيث تستخدم أمريكا تلك الورقة في الضغط على نتنياهو المتعنت من جهة، وتحاول جذب بعض الدول العربية المؤثرة سواءً سياسياً أو اقتصادياً من خلال منحها ورقة هامة تتعلق بالقضية الفلسطينية من جهة أخرى إضافة إلى محاولة إرضاء الصوت الانتخابي لعدد من الإثنيات بالولايات المتحدة ومنها العربية أولاً. غير أن الجميع يدرك أن تلك الدولة التي يتحدثون عنها دون إيضاح المضمون والشكل والحدود والعاصمة لا مقومات لها مطلقاً دون مفهوم يتفق مع تعريف القانون الدولي للدولة الوطنية، إضافة إلى الرفض المطلق لذلك من جانب نتنياهو كما والإجماع الصهيوني المماثل. كما أن وقت بايدن ينفد ولا متسع لتحقيق أي إنجاز سياسي في بضعة أشهر، وهو يدرك أن هذه المبادرات لا قيمة لها، وقد تستغل فقط كأوراق انتخابية مثل سابقتها من مبادرات رؤساء سابقين. لكنه أيضا رئيس مهزوز ومن الواضح أنه ليس بكامل صحته العقلية وأن هنالك من يوجه السياسة الأمريكية في هذه المرحلة من خارج البيت الأبيض ومن أهمهم أقطاب الحركة الصهيونية العالمية وحلفائها التي ينتمي لها بايدن ومعظم كبار موظفي البيت الابيض. حتى أن بايدن قد صرح أول أمس بأنه لا وجود لأي تحول استراتيجي بالعلاقة مع إسرائيل وهذا ما جاءت عليه أيضاً تصريحات المسؤولين الآخرين الذين أكدوا أن انهيار العلاقة مع نتنياهو ليست في مصلحة الأمن القومي الأمريكي، رغم محاولات الدفع الأمريكية باتجاه تغيرات في شكل حكومة الاحتلال والتي برأيي لن تختلف من حيث الجوهر والأهداف.

هذه السياسة الأمريكية المخادعة، هي جزءٌ من سياسة أمريكية عامة في تعاملها مع القضية الفلسطينية، ومع الاحتلال الإسرائيلي، ومع أمن واستقرار دول المنطقة، وهي سياسة لا يمكن الشك في أنها لا تخدم السلام ولا الاستقرار في المنطقة، وأن أمريكا بهذه الفوقية في تعاملها مع الدول والشعوب معتمدة على قوتها العسكرية لا يمكن الاطمئنان على حسن نواياها وأهدافها.

العلاقات الدولية تُبنى عادة على المصالح المشتركة لكلا الطرفين، وتقوم وفق اتفاقيات وقواعد يتم احترامها، وتتأسس وفق حاجة الدول إلى التعاون والتنسيق، وخدمة الأهداف المشتركة، لكننا في الحالة الأمريكية لا نرى من الولايات المتحدة الأمريكية إلا عدم الالتزام باحترام علاقاتها الثنائية مع الدول، فهي تتصرف من موقع القوة والهيمنة، بعيداً عن التفاهم والحوار والحرص على مبادئ الأمن والسلم الدوليين.

إن الولايات المتحدة الأمريكية على لسان مسؤوليها الكبار تتحدث عن شيء وتتصرف على نقيضه، بمعنى أنها تقول مالا تفعله، وتوهم الآخرين بموقف، فيما هي تخفي ما هو غير ذلك، ففي أهدافها تناقض كبير ومفضوح، ملبياً لسياسة دولة لا تنظر إلا بما يلبي أهدافها وأطماعها ويحقق مصالحها الاحتكارية التي تخدم الفكر النيوليبرالي الجديد والبشع.

خلافاتهم في إطار توافقهم

لقد تحدث الإسرائيليون عن خلافاتهم خلال الأيام الماضية بخصوص التعاطي مع رفح وصفقة الأسرى والحلول المطروحة، بل وكانوا قد مارسوا الخلافات الحادة منذ عام حول طبيعة الدولة وما سمي بالانقلاب القضائي. ولكن عندما يتعلق الأمر بالعنصرية والتفوق اليهودي والفصل العنصري وتعزيز الاحتلال الاستعماري الإحلالي، فإنهم جميعا متحدون بأهدافهم.

الأمر الذي يؤكد أنه لا حل لوجود هذا الصراع في غياب معارضة إسرائيلية ترفع شعار إنهاء الاحتلال، دون ضرورة العمل على تفكيك هذا النظام الاستعماري الإحلالي صاحب الفصل العنصري، فلا يبدو ممكنا إيجاد حلول وسط حالياً مع هذه الحركة العنصرية وحكومتها الفاشية في مجتمع يجنح نحو التطرف اليميني الديني.

التهجير بين التحرر الوطني والمشروع الوطني

لست متأكداً منذ متى تم البدء باستخدام مصطلح المشروع الوطني، ولا أدري ماذا يعني تماماً هذا المصطلح في حالة غياب سيادة الدولة على أراضيها وعلى كل شعبها الخاضع للاحتلال من نواحي السياسات الاجتماعية والاقتصادية. لكنني أدرك بأن هنالك قضية تحرر وطني لشعب عانى وما زال من استعمار استيطاني ومن مصادرة حقوقه التاريخية السياسية على مدار 76 عاماً من جانب الحركة الصهيونية العالمية بمختلف مكوناتها وعبر أشكال مختلفة من الاضطهاد والقهر والتميز العنصري حتى الإبادة الجماعية والتهجير.

فلا احتلال دون مقاومة، فرغم التغيرات الكبيرة التي عصفت بالعالم وفي منطقتنا إلا أن هذا الاحتلال الاستعماري استطاع الاستمرار في محاولات تنفيذ مشروعه وفق السردية الصهيونية والتوراتية منذ ما قبل جريمة النكبة حتى اليوم وما يجري من عدوان الإبادة الجماعية والتهجير، أمام التضحيات الهائلة التي قدمها شعبنا وما زال حتى يومنا هذا من خلال كافة أشكال الكفاح الوطني. وفي كافة مراحل تنفيذ مشروعهم أعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر لارتكاب جرائمهم من التهجير بحصانة حتى إذا نجحت بغزة تجري لاحقاً بالضفة والقدس وحتى بالداخل الفلسطيني. واليوم لم يكن ليجري هذا العدوان لولا الموافقة والشراكة الأمريكية والبريطانية بل والأوروبية عموماً فمنذ  الأيام الأولى لما بعد 7 أكتوبر وما حققه هذا اليوم من إرادة للتغيير، تم الحديث أمريكيا وإسرائيليا عن العدوان البري الذي أدى إلى خسائر ما بين الشهداء والجرحى والمفقودين إلى حوالي 4.5% من تعداد شعبنا في قطاع غزة، وحصار 1.4 مليون الآن في مدينة رفح بعد التهجير القسري من الشمال والوسط، فإلى أين سيكون الاتجاه بعد رفح أمام هذا العدوان الثلاثي المخطط له منذ عقود لجعل غزة مكان غير قابل للحياة في توجه لتصفية القضية الفلسطينية واستبدال قضية اللاجئين وفق القرار 194 بحكاية جديدة للاجئين جدد يجري الأعداد لها بنكبة جديدة طالما حتى توصيات محكمة العدل الدولية لحين القرار بالقضية المرفوعة لا تجري متابعتها أو تنفيذها.

مع ذلك لا يبدو أن نوايا إسرائيل هي الذهاب سريعاً باتجاه صفقة وهي تريد من الأطراف العربية الضغط على حركة حماس لتقديم تنازلات تساعد نتنياهو في المضي قدماً في خطته بعدم إنهاء الحرب بشكل كامل، فلماذا إذن نكون نحن أنفسنا جزءً من مكون هذه الأطراف؟ دور الجميع الآن أقصد فلسطينياً هو الوصول إلى تحقيق قانون الانتصار، خاصة بعد ما وصلنا له حتى ما قبل 7 أكتوبر ومنذ تخليهم عن ما سمي بعملية السلام. فنحن حركة تحرر وطني، تصرفاتنا وسياساتنا يجب أن تبنى على ذلك المفهوم وهذه الرؤية حتى إنهاء الاحتلال. هنالك ضرورة كما قلت بمقالات سابقة على ضرورة وجود مبادرة فلسطينية سياسية واحدة موحدة في إطار جمع شمل الكل الفلسطيني من فصائل ومستقلين ومجتمع مدني في إطار منظمة التحرير وفق آليات ديمقراطية تأخذ بالمنظمة إلى التفعيل للوصول إلى قرار فلسطيني وطني نعمل بموجبه مع شعوب العالم حتى إجراء انتخابات عامة تحقق ما نصت عليه وثيقة إعلان الاستقلال وتحدد مسار الرؤية السياسية القادمة وفق البرنامج الوطني.

Loading...