تشييع جثمان الإنسانية

لا يجوز الحديث من الأول عندما يتعلق الأمر بالحالة الإنسانية والمعيشية التي تعاني منها غزة هذه الأيام، الدكتور محمد الفار رئيس الفريق الطبي لمنظمة رحمة حول العالم، والذي كان ضمن فريق طبي أجرى عملية جراحية ثانية اليوم للصحفي اسماعيل أبو عمر، لوقف نزيف أصابه مرة أخرى في قدمه اليمنى المبتورة، وقدمه الثانية المتهتكة، قال ما يجب أن يقال "من الآخر" لا الأول، قال: الإنسانية؛ تم توقيع شهادة وفاتها.

ونحن لا نتحدث عن جيش الاحتلال فاقد الإنسانية والأخلاق، ولا عن سياسيي إسرائيل وعلى رأسهم نتنياهو، وغالانت، وغانتس، أعضاء مجلس الحرب النازية الوحشية، بل عن العالم بأسره، وعن منظماته الأممية، والإنسانية، والحقوقية، ومحكمة الجرائم الدولية، وحتى العدل الدولية، وعن مواقف عربية، ومعبر لا تملك كل الدول العربية والإسلامية فتحه، وعلى رأسهم مصر صاحبة المعبر الذي يربطها بقطاع غزة، والتي كان يجب أن لا يسمح لإسرائيل بسلطان عليه، وبشكل خاص، في ظل ظروف كارثية غير مسبوقة يعيشها القطاع وأهله.

أنا لا أصدق ما أرى، لا أصدق ما أسمع، وما لا أسمع، لا أصدق أن تترك غزة وأهلها تحت القصف المجنون لمدة خمسة أشهر دون توقف، أن يموت أكثر من 13 ألف طفل، وأكثر من 12 ألف امرأة، وأن يكتفي العالم بالمطالبة بوقف إطلاق نار أو هدنة، هذا إذا لم يؤيد استمرار الحرب لمنح إسرائيل المزيد من "الحق للدفاع عن نفسها"!

مجمل ما يجب أن يقال أن الإنسانية ماتت، تم التوقيع على شهادة وفاتها، ربما لم يسعف الوقت تشييع جثمانها من قبل أهل غزة، لأنهم منشغلون بدفن موتاهم، أقصد جمع أشلاء موتاهم في أكياس النايلون، ربما بسبب انشغالهم في البحث عن العلف لطحنه وعجنه وخبزه لأطفالهم، ربما بسبب تنقلهم من حي إلى آخر، ونزوحهم من الشمال إلى الجنوب إلى الوسط، وربما بسبب انشغالهم برفع جثث متحللة من تحت الأنقاض بعد انسحاب الجيش من مكان ليتموضع في آخر، وربما لأن "ريقهم ناشف" ويبحثون عن شربة ماء، أو بسبب وجودهم إلى جانب أبناء حرقت أجسادهم، أو بترت ساقهم، أو لأنهم ينتظرون دورهم في نيل الشهادة عنوة، ولكنهم بالضرورة، سيشيع من بقي حياً منهم هذه الإنسانية المفقودة، ولأن الإنسانية ماتت بعيدة عن مرأى أعينهم، فلا بد أن يكون نعش الإنسانية فارغاً؛ ستكون جنازة رمزية، المهم أنه لا بد من تشييع جثمان الإنسانية.

غزة اختبار الله في خلقه، واختبار المواقف، وغزة كشفت المستور، عرّت الوجوه، غزة مفرزة للبشر الأنقياء من الأشقياء، وغزة محك لمن لم يتم حكّه من قبل، تجربة لمن لم يُجرّب، لأقفال لم تفتح من قبل، لأبواب طرقت ولم تفتح، ولأبواب فتحت دون أن تطرقها يد طارق، لقريب كنا نظنه غريباً، ولقريب كنا نظنه قريباً، غزة أقصر الطرق للوصول إلى الله، وأقصر الطرق لمعرفة عباد الله، للكشف عن القلوب، وتقليب القلوب، لتقدير المسافة بين الأرض والسماء، لمعرفة مدى قصر الرحلة، لاكتشاف الروح، وروح الروح، الروح الحية الرحيمة، والروح الفاسدة الدنيئة، فليس كل روح روح، وليس كل من يسير على قدمين بشر، غدت الحياة مزرعة حيوان، يحكمها "نابليون"، ويصارع فيها "بوكسر" صخر المحاجر، وُيفسدها غراب، وتلهو فيها "مولي" العاهرة، وربما تكون مهرة بقلب إنسان!

كلمات مفتاحية::
Loading...