ينادي اليوم بصوت عالٍ كل حريص على مستقبلنا الوطني بعد هذه الحرب الشرسة، بإنجاز مهمة الوحدة الوطنية بنوع من الخلط بين المفهوم السياسي والمفهوم المجتمعي، عبر الدعوة للتوافق على برنامج وطني جديد. وهذا ما يجعل الدعوة المتسلحة أحياناً بالنوايا الحسنة لا تؤدي وظيفتها المرجوة حيث لا تناقش بعض القضايا الأساسية في مسار تطور البرنامج الوطني الفلسطيني عبر سلسلة محطات أساسية كان أبرزها إعلان دولة فلسطين عام 1988؛ علماً أن الخطوط الرئيسية لهذا الإعلان حافظت على المضمون العام لبرنامج "النقاط العشر"، وأعادت مقاربته في ضوء المتغيرات الكبرى على مختلف الصعد، ولا سيما الصعيد الذاتي الفلسطيني بعد العام 1982.
بيد أن أبرز ما يميز برنامج إعلان دولة فلسطين هو ذاك الانتقال التدريجي الهادئ من مقولة التحرير الكامل عبر الكفاح المسلح (بناءً على فكرة تثوير المنطقة العربية، خصوصاً في بلدان الطوق، وفي إطار معادلة القطبين) إلى خيار الدولتين والنضال الشعبي والسياسي والدبلوماسي (السلمي بوجه عام) لإنجاز الاستقلال في حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، وتأمين حل عادل لقضية اللاجئين بناءً على القرار 194.
هذا الانتقال الذي وافقت عليه المؤسسة السياسية الفلسطينية الجامعة (منظمة التحرير) فتح الباب واسعاً أمام مشروع التسوية التاريخية وأعطى القيادة الفلسطينية قوة دفع كبيرة لإنجاز اتفاق أوسلو، كما أشَّر إلى ضرورة إجراء تعديل على خريطة التحالفات الدولية والإقليمية لدى الجانب الفلسطيني، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. بيد أن أطروحة منظمة التحرير، بما هي محصلة الوضع السياسي الفلسطيني، أسفرت عن مفارقة ذات مغزى هام تمثلت في التفاوت الكبير بين نُضج هذه الأطروحة على مستوى قيادة المنظمة وبين نضجها على مستوى الفصائل المكونة للمنظمة نفسها.
والملاحظ أن تلك الأطروحة في رأس الهرم لم تجد ترجمة واضحة لها في البرامج السياسية للفصائل، ولا في منطقها التعبوي، سواء داخل أطرها التنظيمية أو في حقل عملها الجماهيري. وقد بلغ هذا التفاوت في بعض الأحيان درجة التناقض بين خطاب المنظمة وخطابات الفصائل من دون استثناء.
وحتى لا نذهب مباشرة إلى المعارضة اليسارية والإسلامية لا بد أولاً من النظر في مدى حضور هذا البرنامج على صعيد حركة فتح صاحبة الكتلة الأكبر عدداً في المجلس الوطني الذي أقر البرنامج. على هذا الصعيد نجد اضطراباً كبيراً في فهم أطروحة المنظمة، كما نكتشف حالة واسعة من الاعتراض السافر أو المقنَّع، على مختلف المستويات، بما في ذلك المستوى القيادي الأول. هذا الأمر أسفر عن اتساع الهوة بين مضمون البرنامج ومتطلبات نشره وتعميق تبنّيه في إطار حركة فتح ووسط الحركة الجماهيرية. فقد فهمه البعض على أنه أطروحة تكتيكية أو مناورة في التعاطي مع المجتمع الدولي، والبعض الآخر سحب عليه مفهوم المرحلية، بينما لم يبذل مؤيدو البرنامج الجهد الكافي، النظري والسياسي والجماهيري، لإقناع الاتجاهات الرئيسة في الجسم السياسي الفلسطيني بجوهر هذا البرنامج. هذه المفارقة أدت من الناحية الموضوعية لحدوث تطور سياسي شديد الأهمية في رأس الهرم الفلسطيني، بينما عانت الهياكل والبنى السياسية الوسطى من الجمود والمراوحة لتتسع الهوة أكثر. فإذا كان هذا هو حال الفصيل الرئيس في الحركة الوطنية الفلسطينية فليس من الصعب تتبع المشكلة في برامج القوى الأخرى التي شهدت في كثير من الأحيان حالة فقدان الاتجاه أو العودة إلى التشبُّث ببرنامج التحرير الشامل والكفاح المسلح.
وفيما تتزايد الحاجة إلى تطوير البنى والهياكل السياسية لتستطيع مواكبة التطورات وتلبية متطلبات المرحلة الجديدة، إذ بنا نشهد –على العكس– استمرار البنى والهياكل القديمة التي اعتادت العمل وفق آليات وأنظمة ومفاهيم تنتمي لمرحلة ما قبل عام 1982.
من الناحية الأخرى استفادت حركة "حماس"، بخطابها الإيديولوجي وطريقة عملها السياسية ذات الطابع البراغماتي الواضح، من تلك الإشكالية/ المفارقة وما نجم عنها من مشكلات، فنجحت في تأسيس موقع الثاني في الساحة الفلسطينية الذي تزعّم عدداً من الفصائل العلمانية واليسارية.
ما تقدم يكشف بوضوح الأسباب الكامنة وراء استمرار شعار الوحدة الوطنية في إطار الابتزاز السياسي والشعبي. وهو ابتزاز قائم على محورين: الأول، الهجوم على القيادة الفلسطينية الشرعية، حاملة البرنامج الوطني، واتهامها بكل أنواع الانحراف، والدعوة لإسقاطها. والثاني، الشكوى والتذمر من استفراد القيادة الفلسطينية بالقرار، ودعوتها لتشكيل قيادة وطنية موحدة، رغم تمسك حماس بمقاطعتها المنظمة وإخلاء مسؤوليتها عن أي تطور أساسي تشهده المسألة الوطنية، تحت شعار معارضة الاتجاه السياسي العام للقيادة.
لا شك أنه مشهد ينطوي على مفارقة سياسية سافرة تجعل من عملية إنتاج الوحدة الوطنية نوعاً من التلفيق السحري. وهذا الأمر يدعونا إلى التدقيق في مصطلح الوحدة الوطنية لحمايته من التوظيف الفئوي والتأويل المزاجي.
غالباً ما يستخدم هذا المصطلح للتعبير عن الوحدة الفصائلية في إطار منظمة التحرير، أو دعوة حركتي حماس والجهاد الإسلامي للانضمام إلى صفوف المنظمة. بيد أن الحديث عن "مشكلة وحدة وطنية" ينطوي على مبالغة تتنافى مع واقع المجتمع الفلسطيني. فالحالة المجتمعية الفلسطينية تدل بوضوح على وجود انسجام بنيوي عام. فلا انقسامات إثنية أو عرقية أو دينية داخل هذا المجتمع تتطلب النضال من أجل وحدته الوطنية، كما هي حال العراق أو لبنان. واقع الأمر أن المعارضة تستثمر هذا المصطلح لتحسين موقع الفصائل والقوى، ولزيادة مكتسباتها التنظيمية وعليه لا يمكن الحديث عن إشكالية أبعد من إشكالية البرنامج السياسي الخاص بكل فصيل، ومدى قربه أو بعده عن البرنامج الوطني المقر في المجالس الوطنية.
كذلك يكشف هذا الموضوع بعداً آخر له علاقة بنزعة غير ديمقراطية، حيث نجد فريقاً من خارج المنظمة (الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني) يدعوها إلى التخلي عن برنامجها الوطني المقرّ في المؤسسات التمثيلية الشرعية وتبني برنامجه الخاص، لا لشيء سوى تحسين شروط انضمام هذا الفريق إلى المنظمة، ودائماً تحت شعار "حماية الوحدة الوطنية".
إن البرنامج السياسي الفلسطيني الذي يحظى بالشرعية الوطنية المعبر عنها في منظمة التحرير ومؤسساتها (المجلس الوطني، والمجلس المركزي، واللجنة التنفيذية) هو الفيصل الحقيقي في كل ما يدور من جدل حول وحدة الفصائل والاتجاهات. وعلى قاعدة هذا البرنامج المعبر عن مصالح المجتمع الفلسطيني بمجمله يمكن التقدم نحو وحدة داخلية حول استراتيجية العمل وسبل مواجهة التحديات والاستحقاقات.
لقد حان الوقت كي تعمل القوى السياسية الفلسطينية على انتاج توافق على استراتيجية مشتقة من البرنامج الوطني. لمعالجة نتائج الحرب التدميرية على المجتمع الفلسطيني حيث أن الفصائل أداة عمل لخدمة الشعب وليس العكس وهذا معيار تسقط أمامه معظم الاعتراضات والتحفظات.
إن وقف المذبحة الدائرة في فلسطين مسألة فوق سياسة وعلى الفصائل أن تحاذر السقوط في هذا التقصير.