ماذا بعد رفح؟

 

تتعالى الأصوات في العالم مستجدية إسرائيل أن تأخذ بعين الاعتبار وجود مليون و400 ألف مدني في مدينة رفح، معظمهم هَجَّرتهم إسرائيل بعنف دموي من شمال ووسط غزة ومن مدينة خانيونس.

هَجَّرت إسرائيل أهالي غزة إلى رفح، لكن بعد رفح إلى أين؟ لا شيء بعد رفح سوى صحراء سيناء، وهو المكان الذي دعا علانية رئيس وزرائها بتهجير سكان غزة إليه "مؤقتا" منذ الأيام الأولى للحرب. لقد استخف الجميع حتى فصائل المقاومة في غزة بهذه التصريحات، ولم يكتفوا بذلك فقط، بل استخفوا أيضا بإعلان إسرائيل نيتها الاجتياح البري لغزة وإنشاء منطقة عازلة تقتطع عشرات الكيلومترات من مساحة القطاع الذي يعد المنطقة الأكثر اكتظاظا سكانيا في العالم، وقللوا من شأن الدعوات التي خرجت من كل المستويات في إٍسرائيل بمن فيهم وزراء، التي تدعو لإعادة احتلال القطاع والاستيطان فيه، وادعت أن المقاومة قادرة على منع كل ذلك.

ربما تذكرنا ردة الفعل هذه بما حصل عندما أعلنت إسرائيل نيتها إنشاء جدار الضم العنصري في العام 2002 خلال انتفاضة الأٌقصى، بدعوى منع تسلل منفذي العمليات الاستشهادية إلى داخل إسرائيل، لقد أصرت الفصائل على الاستمرار في العمليات الاستشهادية وادعت أنها بالعمليات الاستشهادية هذه قادرة على منع إسرائيل من إنشاء الجدار، لكن ما حصل هو أن الانتفاضة انتهت، والعمليات الاستشهادية تلاشت، لكن الجدار باق يعزل القدس تماما، ويقطع أوصال المدن والقرى الفلسطينية، ويصادر مئات آلاف الدونمات وعشرات الآبار الجوفية من الضفة الغربية.

ما يجري في قطاع غزة اليوم يشبه إلى حد بعيد ما جرى قبل أكثر من عشرين عام خلال انتفاضة الأٌقصى، فقد قاوم الفلسطينيون، ثم أعلنت إسرائيل أنها سوف تفعل كذا وكذا، خرجت المقاومة تتوعد وتقول أنها بالمقاومة سوف تمنع إسرائيل من تنفيذ تهديداتها، لكن إسرائيل تنفذ، وتقف المقاومة مرة أخرى عاجزة عن منع الاحتلال من أن يحول قوله فعلا. فبحسب القناة (14) العبرية فقد بدأت إسرائيل بشق طريق يدعى الشارع (749) الذي يبدأ من مستوطنة نحال عوز شرقا ويمتد غربا حتى البحر، شاطرا قطاع غزة بهدف فصل شمال القطاع عن جنوبه فصلا كاملا، ونشرت وكالة أسوشيتد برس تقريرا موثقا بصور من أقمار اصطناعية بدء إسرائيل بإنشاء ما تطلق عليه "منطقة عازلة" شمال وشرق قطاع غزة مما يعني قضم أكثر من (16%) من مساحة القطاع. التقط المحتلون لحظة تاريخية أعطاهم فيها العالم الضوء الأخضر، ولم تتعلم المقاومة من تجاربها التاريخية مع هذا الاحتلال، معتقدة أنها وحدها تستطيع منع إسرائيل من تنفيذ مخططاتها. والأكثر خطورة من كل ما سبق، هو مخطط التهجير الذي يبدو واضحا بعد تكدس أكثر من نصف سكان القطاع في رفح، ونية إسرائيل بدء الهجوم عليها، لتبدأ عملية وحشية جديدة ترتكب فيها مجازر ربما أبشع من كل ما اقترفته خلال الحرب، ثم تبدأ بقصف الشريط الحدودي لعمل فتحات يفر منها الناس هربا من آلة الموت الإسرائيلية التي ستظل تسحقهم حتى الوصول إلى سيناء، ثم تعلن إسرائيل سيطرتها على محور فيلادلفيا بحجة منع تهريب الأسلحة لحماس، لكن سبب السيطرة الحقيقي هو منع أي فلسطيني أجبرته إسرائيل على الخروج من العودة لوطنه، ولن تكتفي بهذا القدر، بل وبعد خفوت ضجيج الحرب وسيطرتها الكاملة على القطاع سوف تعمل وبكل الطرق لإفراغ من تبقى من المواطنين، فبعد أن دمرت غزة وجعلتها مكانا لا يصلح لأي حياة، وشتت شمل العائلات التي سيكون بعضها خارج غزة والبعض الآخر لا زال في بلده، ستنتهج إسرائيل سياسة تشجيع الهجرة لمن تبقى في غزة للالتحاق بأسرهم لأنه السبيل الوحيد للم شمل العائلات. وربما تحصل سيناريوهات أخرى للتهجير منها الممر المائي المتفق عليه بين الاحتلال وقبرص الذي سيكون على شكل سفن تحمل المساعدات لكنها ستكون سفنا تحمل الفلسطينيين إلى منفاهم الأبدي. ومرة أخرى ستدَّعي إسرائيل أن هذه "هجرة طوعية" كما فعلت عند تهجير أجدادنا في العام 1948. وبعد أعوام قليلة لن يتبقى سوى مئة أو مئتي ألف أو يزيدون قليلا، وعندها تشرع إسرائيل بإعادة الاستيطان إلى قطاع غزة.

ورغم كل هذا الخطر الوجودي المحدق بالشعب الفلسطيني، لا زالت ردات فعل القيادات الفلسطينية كلها بما فيها حركتي حماس والجهاد الإسلامي تراوح مكانها في التقليل من مخاطر المرحلة الجديدة من التطهير العرقي الذي يتعرض له شعبنا، وتتصرف بنَفَس انعزالي يعَمِّقُ حالة الانشقاق التي أدت لتردي القضية الفلسطينية حتى وصلت لما نحن فيه.

كما انتهت انتفاضة الأٌقصى وكل حروب العالم سوف تنتهي هذه الحرب بطريقة ما، لكن السؤال الجوهري هو: تنتهي على ماذا؟ بغض النظر عن نتائج المفاوضات الجارية الآن لعقد صفقة تبادل للأسرى، يبدو من الوقائع أن إسرائيل ماضية في فرض أمر واقع جديد نخسر فيه مزيدا من الأراضي ونخسر وجودنا عليها، وأن فصائل المقاومة ماضية في سياستها دون تغيير يرتقي لمستوى الخطر الوجودي الذي يواجهه الشعب الفلسطيني، تحقيقا لانتصارات سياسية سوف تبقى صغيرة مهما عَظُمت، لأن أي انتصار يبنى على حساب الوجود الفلسطيني ويؤدي إلى خسارة ما تبقى لنا من وطن، لا يمكن أن يعتبر انتصاراً أبداً.

 

Loading...