في بداية هذا الشهر أعلنت الولايات المتحدة فرض عقوبات على أربعة مستوطنين إسرائيليين لأنهم مارسوا العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، ثم تبعتها في 12/2/2024 بريطانيا بفرض عقوبات على أربعة مستوطنين متطرفين ارتكبوا انتهاكات لحقوق الإنسان في الضفة الغربية، وبعدها بيوم واحد منعت فرنسا 28 مستوطناً إسرائيلياً من دخول البلاد واتهمتهم بمهاجمة مواطنين فلسطينيين في الضفة الغربية. وناقش الاتحاد الأوروبي أول من أمس فرض حزمة عقوبات ضد المستوطنين مرتكبي الجرائم ضد الفلسطينيين. ولكنه لم يتخذ قراراً جماعياً في هذا الموضوع بسبب معارضة دولة واحدة، ما دفع وزير خارجية إسبانيا خوسيه مانويل ألباريس إلى التصريح بأن دولته ستفرض من جانب واحد عقوبات على المستوطنين الذين يمارسون العنف في الضفة الغربية.
جوزيب بوريل الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي أكد على أن الخلاف الداخلي لا يقلل من صرامة الموقف الأوروبي ضد العدوان الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني. وذهب بوريل إلى أبعد من ذلك عندما هاجم رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي لا يستمع لأحد.
في الواقع، قيام دولة أو أكثر بفرض عقوبات على بضعة مستوطنين قد يبدو خطوةً صغيرة لا قيمة لها، فهؤلاء يشكلون عدداً محدوداً جداً من أكثر من 700 ألف مستوطن، والحقيقة أن هذه الخطوة بالرغم من صغرها إلا أنها على درجة كبيرة من الأهمية، وتعني ان العالم بات غير متسامح مع عنف المستوطنين، وأصبح يرى فيه خطراً على الأمن والاستقرار في المنطقة. وبعد حرب الإبادة الجماعية التي تتواصل في غزة صارت الأنظار تتجه نحو جرائم الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية. كما أن هذه الخطوة تعني أن هناك عملية متدحرجة لنزع الشرعية عن الاستيطان بدأت بإصدار قرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي يفصل بشكل قاطع بين الأراضي المحتلة منذ عام 1967 وبين إسرائيل خلف الخط الأخضر، وأن ما يبدو اليوم كعقوبة محدودة قد يتحول إلى عقوبات شاملة، لا تطال فقط بعض المستوطنين المجرمين بل تصل إلى مستوى كل عملية الاستيطان وقادتها جميعاً.
الجديد المؤلم في إسرائيل ان حكومة المستوطنين مضطرة لتنفيذ العقوبات الأميركية، بل وأن الوزير بتسلئيل سموتريتش الممثل الأهم للمستوطنين والصهيونية الدينية لم يستطع منع البنوك الإسرائيلية من إغلاق حسابات المستوطنين الذين أعلنت واشنطن أسماءهم، لأن عدم التنفيذ يعني انهيار المنظومة الاقتصادية لدولة إسرائيل المرتبطة كلياً بالولايات المتحدة. وما عاد بإمكان سموتريتش سوى الانصياع للعقوبات وتنفيذ الشق الخاص بالجهاز المصرفي الإسرائيلي الذي هو مسؤول عنه، في مفارقة غير مسبوقة في إسرائيل.
المجتمع الإسرائيلي مُرفَّه ويحظى بمعاملة دولية خاصة في العالم الغربي الذي ينظر لإسرائيل على اعتبار أنها جزء لا يجزأ منه. وعندما تبدأ الولايات المتحدة بمعاقبة قسم منه وتتبعها دول أوروبا أو حتى غالبيتها فهذا يعني الكثير للإسرائيليين. فهؤلاء تعودوا على معاملة تفضيلية تتغاضى عن جرائمهم وانتهاكاتهم. والآن هذه لم تعد محتملة، بل يجب أن يتم دفع ثمنها حتى لو كان الثمن لا يصل إلى مستوى ما يدفعه من يقع ضحية لهذه الجرائم.
حرب غزة نزعت القناع عن الوجه البشع للاحتلال الإسرائيلي، ولأكذوبة الدولة التي تعتبر واحة الديمقراطية وصاحبة القيم بما في ذلك الأسطوانة الكاذبة التي ترددها إسرائيل والتي تقول إن جيش الاحتلال هو الجيش الأكثر أخلاقيةً في العالم. فانكشفت إسرائيل كدولة تمييز عنصري تمارس جرائم حرب ترقى إلى مستوى جرائم الإبادة الجماعية وترعى عصابات إجرام تنكل بالشعب الفلسطيني الأصلي في هذه البلاد. وجيشها المحتل هو جيش فاشي بامتياز يتلذذ بعمليات القتل والتدمير ويتباهى بها. نعم هذه إسرائيل التي لم يعرفها العالم الغربي من قبل بهذه الصورة.
الضرر المعنوي الكبير الذي لحق بإسرائيل نتيجة حربها الدموية البربرية في غزة سيلاحقها لعقود طويلة، فما تفعله لا يمكن لأي مواطن يملك بعضاً من القيم الإنسانية وله عقل يستطيع التمييز، أن يتسامح معه. فالصورة الوردية التي رسمتها آلة الدعاية الصهيونية الممتدة وواسعة الانتشار في كل أطراف الغرب تحطمت إلى غير رجعة. فالتظاهرات التي تجوب شوارع الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية على وجه الخصوص، وكل أرجاء العالم بصورة عامة هي تعبير عن رفض قاطع لسياسة المحاباة التي حظيت بها إسرائيل بالرغم من جرائمها التي تمت التغطية عليها والتسامح معها وتجريم من يواجهها، بل تصفع الحقائق الدامغة في غزة والضفة الغربية وجوه كل المنافقين الذين يعلمون بما يجري، ويغطون عليه لأسباب غير أخلاقية تتعلق بالمصالح والنظر لإسرائيل باعتبارها قاعدة استعمارية متقدمة للغرب في منطقة الشرق الأوسط، وكل الذين لا يعلمون ويجري خداعهم بأكاذيب الصهيونية المنمقة التي تستغل الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود في أوروبا والتي دفع الشعب الفلسطيني ثمنها.
اليوم أصبح واضحاً أن دول الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل تبعات انكشاف أكاذيب الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية وما تسمى قيم الغرب، فهذه تنتهك بصورة فظة من حليفتها، وأضحت شعوبها ترى بالعين المجردة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين. حتى اليهود التقدميون أصبحوا جزءاً من عملية الاحتجاج الواسعة التي تضرب بشدة غياب الضمير والعدالة ومبادئ حقوق الإنسان. ومحكمة العدل الدولية أصبحت الشاهد على العصر بغض النظر عن قرارها القادم بخصوص جرائم الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل ضد الفلسطينيين. فالقادة العسكريون والسياسيون في إسرائيل سيصبحون ملاحَقين على جرائمهم، وهذا ينطبق على عصابات المستوطنين، وستصبح الهوية الإسرائيلية نقمة على حاملها الذي سينظر له باعتباره مواطناً في دولة مارقة ويُشتبه في كونه قد مارس إحدى الجرائم الممنوعة حسب القانون الدولي.