على الأوروبيين إدراك مخاطر مواقفهم بين شعار حل الدولتين وواقع الدولة العنصرية الواحدة والتهجير

لقد اَن الأوان لأوروبا أكثر من أي وقت مضى أن تبحث عن دور مستقل لها، وتبتعد عن تبعية السياسة الخارجية الأمريكية بشأن قضيتنا الوطنية، وذلك بالرغم من الأزمات الأوروبية القائمة اليوم، وأن تأخذ دورها وزمام المبادرة وتحاول القيام بما لم تقم به الولايات المتحدة لاعتبارات مختلفة كنت قد تحدثت عنها في مقالات سابقة.

المطلوب دورٌ أوروبيٌ يتفق ويتماثل مع الأنظمة الأساسية لدولها كما ولأسس نشوء الاتحاد الأوروبي، بما يساهم في إعادة رسم العلاقة مع إسرائيل وممارسة الضغط الفعلي عليها للوصول إلى ما ينهي الظلم التاريخي الاستعماري بحق شعبنا ويحقق العدالة النسبية لقضية السلام والأمن والاستقرار بالمنطقة والحرية وحق تقرير المصير لشعبنا ويضع حداً لتطور نشؤ نظام فصل عنصري جديد بعد سقوط سابقه في جنوب إفريقيا.

والأهم الآن وقف هذا العدوان الجنوني من الإبادة الجماعية ومحاولات التهجير الذي لم يشهد التاريخ المعاصر مثيلا نسبياً له .

وحيث أن حكومة الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي الجديدة أصبحت تحمل طابعاً فاشياً دينياً أكثر وضوحاً ومنفّراً للمجتمع الدولي وبالتأكيد لقيم ومبادئ الاتحاد الأوروبي النظرية تسقط فيها إدعاء "حالة احتلال عسكري مؤقت" ومقولة الإدعاء "بديمقراطية إسرائيل"، فهي فرصة الآن أمام الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء لإعادة النظر بالعلاقة القائمة مع إسرائيل والتي تتمثل أساساً بالعلاقة الاستراتيجية بينهم سنداً لاتفاقية الشراكة ولأشكال التعاون بالقطاعات المختلفة ومنها العسكري التي تعاقب عليها القوانين الدولية في مثل تلك الحالة .

إن معظم برلمانات دول الاتحاد الأوروبي كانت قد اتخذت قبل سنوات توصيات تدعوا حكوماتها للاعتراف بدولة فلسطين المستقلة والمتواصلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، كما وأيضاً قرارات تتعلق بإدانة الاستيطان ومقاطعة منتوجاته، كما ودعا برلمانيين وأحزاب تقدمية ونقابات وبلديات أوروبية إلى فرض عقوبات على هذه الدولة العنصرية المارقة والتنديد بسياساتها الوحشية بكافة المحافل الدولية والاقليمية في مواجهة تداعيات استمرت أكثر من سبعة عقود ونيف منذ نشؤ هذه الدولة الاستعمارية التي تنفذ منذ البدايات مشروع التطهير العرقي والابرتهايد  والاحلال السكاني لمصالح مجموعات استيطانية على حساب حقوق شعبنا الأصلي في أرضه.

إلا أنه وبالرغم من كل ذلك النهوض الشعبي الأوروبي والمظاهرات المليونية بالتضامن مع شعبنا، فقد استمرت حكومات دول الإتحاد الأوروبي في أتباع سياسات انتقائية تعتمد ازدواجية المعايير تجاه تداعيات الاحتلال الإسرائيلي بمقارنة مع القضايا الأخرى الناشئة بالعالم، بل وإلى مساواة الضحية بالجلاد كأساس للعديد من مواقفها اللفظية كما ولإشادة مسؤولين بالاتحاد الأوروبي "بنموذج ديمقراطية إسرائيل" لفترة طويلة من الزمن، دون أن تتخذ رسمياً قراراً بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وفق تلك التوصيات، رغم بعض المتغيرات التي اضطرت عليها حكوماتها مؤخراً وفق تلك المطالبات الشعبية وضغوطاتها.

إن على الاتحاد الأوروبي اليوم أن يدرك أمام صعود الفاشية الدينية في نظام دولة الاحتلال بشكل واضح وما له علاقة بذلك من اجراءات تتخذها حكومتهم بشأن تشريعات سابقة أضافت جوهراً عنصرياً من خلال قانون قوميتهم اليهودية، وسحب الجنسيات من الفلسطينيين المقيمين في إسرائيل وتحديداً الأسرى منهم وقانون منع رفع العلم الفلسطيني التي اتخذ قبل العدوان الجاري. كل هذه الإجراءات وغيرها تتسم بشرعنة العنصرية وتشكل انتهاكات واضحة للقانون الدولي الإنساني والاعلان الأساسي لحقوق الإنسان الذي يفترض أن يمثل جوهر الثقافة الأوروبية ومبادئ الأساسية لنشؤ الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أن كل هذه الإجراءات تشكل خطراً على استقرار المجتمعات الأوروبية نفسها من جهة أخرى.

إن ما يجري اليوم من عدوان الإبادة بشراكة أمريكية بالجوهر والشكل والمضمون، يؤكد للقاصي والداني ولكل دعاة الديمقراطية بالغرب، أن "دولة" قامت على أساس التطهير العرقي وفكر الاستعمار الاستيطاني بعد 76 عاماً دون مسائلة من النظام الدولي القائم بل وبتشجيع على ارتكاب جرائمها، أن يَتسم النظام السياسي فيها الاَن بأعلى أشكال الفكر الصهيوني الفاشي وتصاعد أزماتها الداخلية والفوضى السياسية وبالإصرار على تطويع تشريعاتها ونظامها القضائي على هذا الأساس من جهة، وعلى محاولات استكمال تنفيذ مشروعها الصهيوني التلمودي في "إسرائيل الكبرى" الذي تنفذه على قدم وساق، مما قد يزيد من تهديد الاستقرار بالمنطقة والتوحش ضد أبناء شعبنا، الأمر الذي يعني عدم الاستقرار والأمن المطلق لهم وللمنطقة من جهة أخرى .

 لقد كان لإعلان نتنياهو منذ البداية أن حكومته الجديدة ستعمل وفقاً لعدد من التوجهات من أبرزها، "أن للشعب اليهودي حقاً حصرياً وغير قابل للتصرف في جميع أنحاء "أرض إسرائيل الكبرى"، بحيث تشجع الحكومة توسيع الوجود اليهودي فيها لضمان الأغلبية الديمغرافية الاستعمارية، أجراً كان  يجب أن يقرع ناقوس الخطر منذ ذلك الوقت أمام الاتحاد الأوروبي وغيرهم من حجم التداعيات الخطيرة المترتبة على ذلك التي نراها اليوم المتمثلة بارتفاع وتيرة جرائمها اليومية ضد شعبنا وفق ما هو حاصل الآن من جريمة التطهير العرقي التي تجري مكوناتها أمام العالم بمن فيهم العرب .

فإذا كانت الدول الأوروبية من خلال الاتحاد الأوروبي لا تزال تعتقد بعد كل تلك المتغيرات الجارية والتصريحات الصادرة عن رئيس حكومة دولة الاحتلال الاستعماري وتصاعد الجرائم على الأرض في غزة والضفة بما فيها القدس، أنه من الممكن تنفيذ تصور "حل الدولتين" كخيار أممي وفق القرارات الدولية، فإن العديد من المبادرات المفيدة والضرورية في هذا الاتجاه قد تكون متاحة أمام الأوروبيين أنفسهم على الفور لمواجهة هذا الموقف.

ورغم أن ما تبقى من أرض فلسطينية محتلة دون استيطان لا يساهم في تنفيذ إقامة دولتنا وفق القرارات الدولية، وحتى لا يبقى الأمر متعلقاً بتصريحات أو ببيانات لفظية تَتخِذ في بعض الأحيان شكل النفاق السياسي، فيمكنهم أولاً مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية وتقديم تطبيق عملي لدعم وتعزيز شرعية مبدأ حل الدولتين من خلال الانضمام إلى الدول التي اعترفت بدولة فلسطين على حدود ما قبل 4 حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وكما بقرار 194 المتعلق بقضية لاجئينا. والأكثر أهمية طالما أنهم قادرون على فرض عقوبات على دول مختلفة ، فبإمكانهم فرض عقوبات اقتصادية وكذلك سياسية على إسرائيل وتكثيفها حتى تمتثل إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال الاستعماري للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وتوقف عدوان الإبادة ومشاريع التهجير المخطط لها، على طريق انهاء الاحتلال أولاً قبل الحديث عن مبادرات سياسية لاحقة للسلام إضافة إلى وقف الاستيطان الذي يتخذون اليوم قرارات بتوسعته، وإسقاط أشكال الفصل العنصري باعتباره جريمة أخرى .

أما إذا كانت الدول الأوروبية ما زالت تعيش عقدة الخوف من املاءات الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية بعد مشروع مارشال، ومن المال اليهودي أو من فزاعة معاداة السامية والهولوكست، وهي بذلك غير مستعدة لاتخاذ مثل هذه المبادرات العملية، أو إذا كانت قد توصلت إلى قناعة بأن "حل الدولتين" لم يعد ممكناً وأن القضية الوحيدة الآن هي ما إذا كان واقع الدولة الواحدة الحالي سيستمر كحقيقة نظام فصل عنصري إسرائيلي بفوقية يهودية، هو ما يمكن تحويله إلى واقع ديمقراطي كما قد يعتقد البعض منهم، فيجب عليهم التفكير في تاريخهم الأوروبي ومسؤولياتهم من أجل تحديد الطريقة الأكثر فائدة للمضي قدما بذلك حتى تتوفر الديمقراطية والعدالة والحقوق المتساوية في دولة واحدة. وهو نموذج قد يكون أكثر واقعية أمام بعض الأوروبيين من أجل السلام بعيداً عن أشكال الفوقية والاضطهاد القومي بدلاً من الاستمرار في إعادة تدوير عملية سلام مفترضة لا تجد شريكاً اسرائيلياً وقائمة على تقسيم الأرض وتوسيع الاستيطان والتهويد والإبادة والتهجير في اَن واحد.

إن التساؤل يتعلق بحلفاء دولة الاحتلال الغربيين في أوروبا الذين لطالما أشادوا بالقيم المشتركة معها لإخفاء تنكرهم للقضية الفلسطينية، لكن هذه القيم بات من المستحيل اليوم أكثر من أي وقت مضى العثور عليها أو إخفائها تحت مبررات الأمن والدفاع عن النفس للمجتمع الإسرائيلي أمام التطور الجاري بشكل وجوهر النظام في إسرائيل وسياسات حكومته من سياسات الإبادة الجماعية ووقوفها في قفص العدالة الدولية .

يجب الآن على الأوروبيين التحلي بالجرأة الأخلاقية والسياسية والتشكيك في الافتراضات القديمة، بما في ذلك مقولة "نجاح التجربة الصهيونية الديمقراطية" التي ساهم الغرب بالترويج لها بل وبالدفاع عنها، فالحقيقة الراسخة هي أن الصهيونية كانت ولا تزال فكراً عنصرياً وحلماً معادياً للسامية نفسها، مما يوفر الأمل في مواجهتها أوروبياً اليوم وإمكانية حث اليهود على المغادرة أو الهجرة المعاكسة والانتقال إلى مكان آخر للعيش به والعودة إلى مواطنهم الأصلية بأوروبا وغيرها بدلاً من الاستمرار في معارضة العدالة الإنسانية والقانون الدولي والإنساني من خلال الدعم المطلق لتجربة استيطانية عرقية ودينية استعمارية التي تتصاعد اليوم إلى الفاشية من خلال الإبادة الجماعية ومحاولات التهجير متعدد الأسباب.

إن ذلك سوف يعكس اعترافًا أخلاقياً وسياسياً أوروبياً بأن الصهيونية كحركة سياسية، مثل بعض "المذاهب السياسية" كالنازية التي برزت في القرن العشرين والتي استحوذت على خيال الملايين، كانت أفكار عنصرية عادت بالضرر على جموع البشرية بشكل مأساوي .

وهي طريقة أيضاً للتكفير عن خطايا أوروبا السابقة ضد فقراء اليهود التي تنعكس بشكل غير عادل على حقوقنا الوطنية الثابتة، من خلال الترحيب باليهود الإسرائيليين لإعادة توطينهم في الدول الأوروبية، وهو إجراء منطقي لن يعارضه سوى الأشخاص المعادين للسامية أو الصهاينة الذين يسعون لبناء نظام الفصل العنصري الجديد في أرض فلسطين التاريخية سياسياً وبتعبيرات "مملكة اليهود" تلموديا ودينيا.

ولذلك على الأوروبيين أن يدركوا بشكل واضح أن لا احتلال بلا ثمن وأن المقاومة هي حق للشعوب المضطهدة، كما كان كذلك في أوروبا سابقا، وأن الحرية لشعبنا الفلسطيني وحقه بتقرير المصير يستدعي مواقف سياسية مبدئية تختلف عما شاهدناه سابقاً وحتى الآن  بشأن الحديث اللفظي عن حل الدولتين دون حديث عن إنهاء الاحتلال فيصبح ضرباً من الخيال. حيث أن تمكين شعبنا من حقه بتقرير المصير وسيادته  فوق ترابه الوطني دون وجود احتلال وفق الحقوق التاريخية والقرارات الدولية هو الضامن الوحيد للحلول التي يحاول الأوروبيين المساهمة فيها، وهو الحل الوحيد لإنهاء الصراع القائم وإحلال الحرية والأمن والعدالة الأمر الذي لن يشكل فقط مصلحة لمستقبل الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي فقط بل مصلحة في اسقاط الفصل العنصري كنظام ومصلحة أيضا لإسقاط ووقف جرائم الإبادة الجماعية، أمام كل الأوروبيين في شرق المتوسط الذين يعيشوا في جوارنا، ومصلحة لقضايا الأمن والسلم الدوليين، بافتراض قيامنا نحن أولاً بمسؤولياتنا الوطنية في توحيد جهود كل أبناء شعبنا للوصول إلى تحقيق التحرر الوطني الديمقراطي وحماية شعبنا على كل المستويات .

Loading...