حروب النفوذ وحروب الترميم

 

إن ما يحصل في أوكرانيا من ضياع للبوصلة وعدم القدرة على الحسم لصالح طرف من الأطراف أدى إلى نقل جزء من المعركة إلى إفريقيا والتي بدأت تتمرد على الهيمنة الاستعمارية الأوروبية وما يحصل في دول المحور الإفريقي الجديد خاصة، لهو دلالة واضحة على أن الصراع الدائر يختلف عن كل الصراعات التي عرفناها خلال القرن الماضي عندما كانت مكونات الأقطاب واضحة المعالم.

وهنا يبرز تساؤل: هل تعمل روسيا على إقناع الأوروبيين بأن تحالفهم مع أمريكا سيجلب لهم الويلات بغية تعميق الهوة بين الطرفين، عبر تحميل أمريكا مسؤولية ما تعاني منه أوروبا من نقص في موارد الطاقة وفروغ مخازنها من الأسلحة والذخائر التي تصر الولايات المتحدة على إرسالها إلى أوكرانيا.

وهل تسعى روسيا لمنع الأوروبيين من نهب خيرات إفريقيا وبالتالي دفعهم للابتعاد نسبياً عن أمريكا؟ بحيث يُسهل ويُمكّن حضور القطب الجديد (البريكس) الذي ربما يعوض الأوروبيين عن ارتباطهم غير المتكافئ بأمريكا.

ولهذا كله فان هدف أمريكا من إطالة أمد الحرب هو استنزاف روسيا وتعطيل أو بالحد الأدنى تأخير بناء قطب عالمي جديد يسعى للاستحواذ على الدور ألامريكي المهيمن عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، إضافةً لإيصال رسالة إلى دول أوروبا مفادها، لن تكونوا في مأمن بدون الحماية إن لم نقل الوصاية الامريكية. بمعنى أن روسيا وأمريكا تسعيان لترميم صورتيهما اللتين تآكلتا في العقدين الأخيرين.

أمّا في الشرق الأوسط فمنذ زمن ليس ببعيد ونحن نسمع طبول الحرب تدق حينا بصوت عال وأحياناً كثيرة بصوتٍ أقل حدة، فهل يا ترى ستكون الحرب إن حصلت تحت السيطرة؟ وهل ستكون محدودة من حيث الزمان والمكان والفرقاء؟

وهنا حسب ما تشير كل المعطيات (ما ظهر منها وما بطن ) لا أعتقد أنها ستكون تحت السيطرة لأسباب عديدة أبرزها تضارب المصالح، والعمل الجاري على التخلص من هيمنة القطب الواحد على المشهد بكل تفرعاته السياسية والعسكرية والاقتصادية والذهاب كحد أدنى إلى عالم القطبين أن لم نقل عالم تعدد الأقطاب.

إنّ إسرائيل التي تآكلت قوة ردعها سواءً في حروبها مع غزة، أو عدم قدرتها على تقليم أظافر إيران وعلى رأسها حزب الله أو عدم قدرتها على حسم المعركة المتواصلة مع المقاومة المتنامية في الضفة الغربية (وبعيداً عن سيطرة حماس التي برهنت على قدرتها على ضبط المقاومين في غزة ظاهرياً كالتزام بما تعهدت به في اتفاقياتها مع إسرائيل عبر وسطاء قطريين وأتراك ومصريين) والتي تعد العدة بالتأكيد للجولة القادمة للحفاظ على سلطتها في غزة والعمل على السيطرة على الضفة الغربية.

كما أن إسرائيل فشلت في ردع الجبهة الشمالية مع حزب الله. يضاف إلى ذلك المعركة الداخلية بين مكونات المجتمع الإسرائيلي، الذي يرفض جزء هام منه إجراءات الحكومة منذ أكثر مما يقارب الأربعين أسبوعا من المظاهرات والاعتصامات المتنامية.

أما حماس التي برهنت على قدرة غير عادية في إيهام العدو بأنها تلتزم بما هو متفق عليه مع إسرائيل وغيابها المطلق عن المشهد في الحربين الأخيرتين، إضافة إلى غيابها عن العمل المقاوم في مخيمات الضفة الغربية مما يوحي بعدم الانسجام بين برنامج مقاوم تتبناه ولو نظرياً وممارسة بعيدة كل البعد عنه، الأمر الذي أدى الى تآكل صورتها لدى المواطن الفلسطيني في الضفة، وبشكل أوضح المواطنين في قطاع غزة ما يضعها أمام ضرورة ترميم صورتها أمام الشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة.

عجز إيران وأذرعها حزب الله، والحشد الشعبي والجهاد الإسلامي، وبشكل أقل أنصار الله الذين عن الرد على الضربات التي يتعرضون لها بشكل شبه يومي في شمال سوريا وغرب العراق، على الرغم من أنهم يدّعون امتلاك الإمكانيات التي تزيل إسرائيل عن الخارطة ويرددون صبح مساء بأنهم لن يدعوا إسرائيل تنفرد بفلسطين وأنهم سيعيدونها إلى العصر الحجري إن هي اعتدت على المقدسات الإسلامية (هذه الاعتداءات التي تحدث يوميا) ولا يفعلون مما أفقدهم المصداقية ويحتاجون إلى ترميم شعبيتيهم.

أما سوريا التي أعيتها الحروب التي ضربت الاقتصاد وقلصت نفوذ الحكومه في العديد من مناطق الجغرافيا السورية حيث روسيا وأمريكا وإيران وتركيا متواجدين على هذه الجغرافيا، بحيث فقد النظام السيطرة على مساحات هامة من الجغرافيا وأدى الى جانب عوامل أخرى لتآكل شعبية النظام وتنامي خطر تثبيت التقسيم القائم على الأرض وعليه فإن النظام يحتاج إلى ترميم شعبيته مما قد يمكنه من الاحتفاظ بالسلطة والحفاظ على وحدة الأراضي السورية.

أما روسيا فهي تعمل على تعزيز دورها في الشرق الأوسط الذي تعتبره منفذها الوحيد على المياه الدافئة، إضافة لضمان حصتها في التقسيم الذي تسعى أمريكا لفرضه على الشرق الأوسط. كما تعمل (روسيا) على ترميم صورتها التي تأذّت نتاج عدم حسمها للمعركة الدائرة في أوكرانيا.

أمام ما سبق أعتقد أن الحرب في الشرق الأوسط هي حرب ترميم الصور (إسرائيل، أمريكا، حماس، إيران وأذرعها في المنطقة، روسيا وربما تركيا).

الواقع الذي يضعنا أمام التساؤل الأهم ألا وهو: كيف ستغدو حرب الترميم، وهل سيكون بمقدور الأطراف السيطرة على الحرب لضمان عدم الانزلاق إلى ما هو أبعد من حرب ترميم؟ وهل ستحقق هذه الحرب الأهداف المذكورة وغيرها من الأهداف تطبيقا لنظرية "مالتوس" التي تطرح كيفية تقليص البشرية عبر قتل أكبر عدد ممكن سواء بالحرب أم بغيرها، وهل يكون المسلمون والعرب هم المستهدفون!

أما أمريكا التي تحشد قوات على الحدود بين سوريا والعراق تحاول أيضا أن تبقي على هيمنتها في الشرق الأوسط لتعزيز مكانتها في مواجهة القطب المتنامي بقيادة روسيا من جهة ولحماية ربيبتها إسرائيل من جهة أخرى إضافة إلى ترميم صورتها أمام شعبها الذي يعرف أن قدراتها في الخارج تتهاوى منذ أكثر من عقدين خاصة بعد الانسحاب المذل من افغانستان.

Loading...