كان التصويت الجارف الذي جرى في الكنيست الإسرائيلي أول من أمس، على رفض الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية سابقة في تاريخ إسرائيل. فقد باتت تختلف على كل شيء، يصطدم فيها الجميع مع الجميع، لكنهم موحدون في رفض إنهاء الاحتلال والاعتراف بحقوق الفلسطينيين بدولة كباقي البشر، وتلك رواية في عرف السياسة والتاريخ ...!
الأهم أن ذلك يحدث أمام العالم الذي يلتزم الصمت دون أن يبدي أي نوع من ردات الفعل لدولة لا تقول سوى أن ما لديها هو استمرار السيطرة على شعب آخر بقوة السلاح؟ ولكن المثير في الأمر أن القرار بشكله المباشر يخص الفلسطينيين، لكنه يصدر كرد على العالم، وفي تحدٍ سافر لرؤيته السياسية التي يحاول أن يطرحها على خجل، فترد إسرائيل بقوة كاسحة ليصاب هذا العالم بالتلعثم. هكذا قال نتنياهو وهو يرسل تهنئته للمعارضة قبل الحكومة التي توحدت خلف القرار» أن التصويت يبعث برسالة واضحة للمجتمع الدولي».
لا اعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطينية، ولا اعتراف بمفاوضات لم تكن أكثر وصفة مزمنة لللخداع؟ لا اعتراف ثنائياً أو خماسياً، فالدولة الفلسطينية خطر على اسرائيل، كما قال مهندس تدمير مفاوضاتها بنيامين نتنياهو في أكثر اعترافاته صراحة، وقد فعل كل شيء ليصل إلى تلك النتيجة ويزداد تظرفاً بعد أحداث السابع من أكتوبر ليثبت أنه الرجل الأقوى، فتلك باتت ذخيرته الوحيدة أمام شارع يتحضر للمحاسبة.
الكنيست الإسرائيلي مكون من مئة وعشرين نائباً صوَّت منهم تسعة وتسعون لصالح قرار رفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية، تسعة فقط صوتوا ضد المشروع وهم نواب الأحزاب العربية التي هبط تمثيلها إلى هذا الحد، واثنا عشر عضواً إما تغيبوا أو كانوا في الخارج، وإلا لحصل القرار على نسبة أعلى في أكبر توافق على قضية ما. فالمعارضة سبقت الحكومة بالتصويت، ما يعني أن الإجماع العام في الشارع الإسرائيلي على رفض وجود دولة فلسطينية أكبر مما تخيلت الأطراف المتفائلة التي تدفع منذ عقود نحو تسوية. وللسخرية كانت تلك الأطراف تتلقف المبررات الإسرائيلية في اتهامها للفلسطينيين بالتسبب في إعاقة المفاوضات وتخريب المسار.
لا دولة فلسطينية في العقل الإسرائيلي الذي ينزاح يميناً بعد أن وصل منتجه السياسي نحو إفراز قوى تؤمن بأرض إسرائيل الكبرى، ويمثلها سموتريتش ويعيد إنتاج ورثة كهانا ممثلاً بإيتمار بن غفير زعيم حزب العظمة اليهودية التي تعطيه الاستطلاعات مزيداً من التفوق. وعلى جانبيهما تكمن قوى تسكن عقلها تصورات قومية دينية هاذية تُجمع كلها على الدولة اليهودية والارض اليهودية، بلا حقوق لما تعتبرهم الأغيار وهم أصحاب الارض الأصليون الذين يصر العقل المصاب بلوثة الأيدلوجيا على مطاردتهم وقتلهم وتنقية الأرض منهم.
يحاول هذا العالم أن يسدي نصيحة للنار التي تشتعل وتشعل معها الضمير العالمي، ينصح النار أن تنطفئ دون أن يحاول جدياً وبكل صرامة أن يضع حداً للعنف الإسرائيلي والخداع الإسرائيلي. وإذا كان خلال العقود الماضية ينتظر الرواية الإسرائيلية يصاحبها حالة هدوء غير مكلفة، فقد أدى هذا الضعف إلى حريق طال الجميع، لكن رغم فداحة ما حدث مازال العالم يطل برأسه بنفس الخجل القديم والجبن القديم.
تُخرج إسرائيل لسانها للعالم وتسخر منه، هذا بيت قصيد التصويت. لكن اللافت هنا أن المراهنة على المجتمع الإسرائيلي باتت مراهنة بحاجة إلى تدقيق وأن المراهنة على المعارضة الإسرائيلية وأن تغيير الحكومة من شأنه أن تؤدي إلى هدوء في المنطقة تم نسفها تحت مبنى الكنيست. فقد اعتبر الجميع أن بنيامين نتنياهو وحكومة المتطرفين هي العقبة في طريق التسوية، رغم أنها كانت السبب لتفجير المنطقة باعتراف الجيش الإسرائيلي، الذي تمكن من ضبط وثائق في خان يونس تعود لحركة حماس تشي بأن سبب السابع من أكتوبر كان اقتحامات الأقصى، أي أن بن غفير واقتحاماته هو ما أشعل النار.
لقد أثبت تصويت الكنيست بالتحكم بشعب آخر أزمة المراهنة على الداخل الإسرائيلي وعلى المعارضة والبدائل، وأسقط الاعتقاد أن تغيير الحكومة المتطرفة يمكن أن يؤدي إلى مسار سياسي، وأن بني غانتس الذي ترشحه استطلاعات الرأي لخلافة نتنياهو ينسجم سياسياً مع سموتريتش وبن غفير وأستاذهما نتنياهو، وأن كل ما سيفعله غانتس هو عودة إسرائيل للساحة الدولية، وكأنها لم ترتكب كل تلك الجرائم التي يتم تحميل مسؤوليتها لنتنياهو وحكومته. وبمغادرتهم يتم مسح تلك الصفحة السوداء، لكن عند الحديث عن السياسة سيكون من الوهم الاعتقاد أن غانتس أكثر اعتدالاً.
صحيح أن الإعلان جاء من قبل متطرفي الحكومة، لكن الإجماع يتجاوز الطبقة السياسية، ليصل نحو الدولة العميقة ومؤسسات الأمن القومي المسكونة بالرؤية الإستراتيجية للحفاظ على أمن «الأمة «. وقد تمكن الجيش أكثر من مرة من إفشال محاولات التوصل لتسوية أبرزها محاولة إيلات، عندما ألقى ممثل الجيش ملف اتفاق كان قيد التبلور في وجه شمعون بيرس اعتراضاً أمام ياسر عرفات، وما كان من بيرس إلا القول «لا اتفاق.. الجيش رفض». فقد وضع الجيش حدوداً أمنية لإسرائيل لا يقبل بأي اتفاق يتجاوزها، وهنا فإن الدولة الفلسطينية بحدودها تبدو تهديداً للأمن، كل هذا يعرفه العالم الذي يبتلع لسانه وعقله أيضاً تاركاً الإسرائيلي يبيد غزة ..!