نقد خيارات "فتح" يصحّ على خيارات "حماس"... وبالعكس

 

ما زال الفلسطينيون، كعادتهم، يتناقشون ويختلفون، وحاليًا، يتركّز ذلك على خيار "حماس" بـ"طوفان الأقصى"؛ مدى دراستها لهذا الخيار، لإمكانياتها، وللتداعيات التي قد تنجم عنه، وقدرتها على استثمار التضحيات والبطولات المبذولة، بالقياس للتجارب السابقة التي لم يسمح لها بجني أي مكسب سياسي في نهاية الحروب التي شنّتها إسرائيل على غزّة.

مشكلة معظم النقاش الفلسطيني، أولًا، في غلبة العواطف، والروح الثأرية، والعقلية الرغبوية، على الصراع السياسي المحسوب، بكل أشكاله، لا سيما أنّ الفلسطينيين في مواجهة دولة قوية، مع مجتمعها، وهي بمثابة وضع دولي في المنطقة، ما يتطلّب منهم إدراك أهمية الاقتصاد بقواهم، وتصريف طاقاتهم الكفاحية في الظرف المناسب، وموازنة الإمكانيات والطموحات، والكلفة والمردود من ناحية سياسية، ونسبية طبعاً.

ثانياً، يذهب النقاش الفلسطيني غالباً إلى ثنائية مضرّة، ومضلّلة، بدل التمييز بين التحليل الموضوعي والموقف الذاتي، أو بين الواقع والتمني، بتفحص موازين القوى، وقدرة الشعب على التحمّل، والتناسب مع الظروف العربية والدولية، إذ لا توجد مقاومة لذاتها، أو "جهاد فإما نصر أو استشهاد"، أو "على القدس رايحين شهدا بالملايين"، فتلك الروح القدرية و"الانتصارية" قد تفيد في الدعاية، لكنها لا تضيف شيئاً في ظروف الحرب.

ثالثًا، بدل افتعال الخصومة، أو التخندق، يفترض تفهم إنّه لا يوجد فلسطيني لا يتمنى هزيمة إسرائيل اليوم قبل الغد، ولا يوجد فلسطيني يتمنى فشل المقاومة، وأنّ النقد الذي يصحّ على خيارات "فتح" يصحّ على "حماس"، ما يعني نبذ ثنائيات: من ليس معي فهو ضدي، إما مع المقاومة أو ضدّها، مع "حماس" أو ضدّها، على غرار وطني أو خائن، مؤمن أو كافر، فهذا نقاش مضلّل، وخاطئ، ومضرّ، ولا علاقة له بالحركات السياسية الفاعلة التي تتطلّب المراجعة، وتلحّ على النقد، باعتبارهما جزءاً من تجربة يقودها بشر، قد يصيبون وقد يخطئون، وهذا حصل في مسيرة طويلة ومعقّدة ومكلفة عمرها 59 عاماً.

رابعاً، لا بدّ من التمييز، وعدم الخلط، بين المقاومة "الشعبية والمسلحة"، والحرب كجيش لجيش، وكصاروخ في مقابل صاروخ، فذلك لا علاقة له بمقاومات الشعوب ضدّ الاستعمار، إضافة إلى الفارق الصارخ بين صاروخ إسرائيلي، يدمّر أبراجاً سكنية، وصاروخ فلسطيني فاعليته ضعيفة وقد لا يصيب. أيضاً، المقاومة المسلحة تتطلّب قواعد، منها الاعتماد على الذات، وتهيئة الشعب، ومراعاة قدرته على تحمّل ردّة فعل العدو، وتفويت الفرصة على العدو لاستخدام أقصى طاقته الوحشية لتوجيه ضربة قاسية لمجتمع المقاومة.

ومع التأكيد بأنّ الفلسطينيين مثلما يفتقدون -رغم ثقافتهم السياسية، وخبرتهم الكفاحية- لرؤية وطنية جامعة، يفتقدون، أيضاً، لاستراتيجية كفاحية، ممكنة ومستدامة ويمكن الاستثمار فيها، بالإضافة إلى نأي قياداتهم عن مراجعة ونقد طريقها وخياراتها.

ففي مراجعة تاريخية يمكننا ملاحظة أنّ الحركة الوطنية الفلسطينية تعرّضت لهزّات عديدة وخطيرة، إذ أُخرجت من الأردن (1970) ثم من لبنان (1982). أما الانتفاضة الأولى (1987-1993)، مع البطولات والتضحيات، فجيّرت لاتفاق أوسلو (1993)، الذي حوّل الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحّرر وطني إلى سلطة في جزء من الأرض لجزء من الشعب مع جزء من حقوق، تحت سلطة الاحتلال. وبعدها أتت الانتفاضة الثانية (2000 -2004)، التي تعسكرت، بطابع العمليات التفجيرية ("الاستشهادية")، ما نجم عنه تقويض البنى التحتية للمقاومة، وقيام إسرائيل ببناء الجدار الفاصل ونشر المستوطنات والجسور والطرق الالتفافية، لتقطيع أوصال الضفة، إضافة إلى فرض الحصار المشدّد على غزة (منذ العام 2007). وجرى كل ذلك من دون إخضاع أي من تلك الخيارات للدراسة أو المراجعة أو النقد، في واقع لا يوجد فيه إطارات قيادة جماعية، ولا مراكز صنع قرار، ولا مشاركة سياسية.

مثلاً، في مقارنة بين الانتفاضتين الأولى والثانية، فقد غلب على الأولى المقاومة الشعبية، مع عمليات مسلّحة ضدّ المستوطنين والعسكريين الإسرائيليين في الضفة والقطاع، وحينها غيّرت الرأي العام العالمي لصالح عدالة فلسطين، وكسرت مكانة إسرائيل كضحية، لكنها أُجهضت، كما قدّمت، بأسوأ استثمار سياسي. في حين شهدت الانتفاضة الثانية انحساراً في المشاركة الشعبية، لصالح العمليات العسكرية، الأمر الذي دفع إسرائيل إلى تجريد حملتين عسكريتين قوّضتا المقاومة المسلحة، والانتفاضة أيضاً، بالهيمنة العسكرية وبالاستيطان.

في الزمن القريب، شهدنا هبّة شعبية للدفاع عن حي الشيخ جراح (أيار/ مايو 2021) شملت الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وتميّزت بمشاركة قوية لفلسطينيي 48، وكان ذلك التطور يمهّد ربما لانتفاضة شعبية ثالثة، لكن بعد إطلاق الصواريخ من غزة انحسرت تلك الهبة، ولم يحقق الاشتباك الصاروخي شيئاً لم تستطع الهبة الشعبية تحقيقه.

الآن، ومع خمسة أشهر تقريباً من حرب الإبادة ضدّ فلسطينيي غزة، فإنّ فلسطينيي الضفة والقدس و48، لا يستطيعون شيئاً، بالقياس لأيام الانتفاضة الأولى، أو لهبة الشيخ جراح؛ ليس لقلّة كفاحية لديهم، وإنما لعدم التوافق على شكل كفاحي ممكن، ومناسب، يمكن لكل الفلسطينيين اعتماده، وتحمّل نتائجه، دون أن يدفع الآلة العسكرية الإسرائيلية لاقتناصه كفرصة لتقويض أو زعزعة وجودهم في أرضهم، في هذا الظرف العصيب، الذي تتوحش فيه إسرائيل، بدعم الدول الكبرى، وهو ما تحاوله إسرائيل في قطاع غزة الذي تستفرد به.

هذا نقاش ضروري، وهو يتأسّس على اعتبار إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والمتوحشة مسؤولة عن نكبة الفلسطينيين، وعن كل مآسيهم، وعلى اعتبار المقاومة، بكل أشكالها، عملاً طبيعياً ومشروعاً لاستعادة الحقوق، وأيضاً على التقدير للمقاومة التي وجّهت لإسرائيل ضربة سياسية وعسكرية ومعنوية غير مسبوقة في تاريخها.

مع ذلك، لنلاحظ إنّ "حماس"، التي يدافع البعض عن خياراتها بالمطلق، قامت بمراجعة خطاب محمد الضيف في شأن معركة "طوفان الأقصى"، وخفّضت من سقفها، بل وباتت تطلب وقف العدوان، لا استمرار القتال، ولم يعد حديثها عن تبييض السجون في التداول، علماً إنّ إسرائيل اعتقلت خلال الأشهر الماضية أضعاف الأسرى في سجونها (سبعة آلاف معتقل من الضفة)، مع أكثر من مئة الف ضحية، قضوا أو أصيبوا أو اعتقلوا أو اختفوا تحت ركام أحياء وعمارات مدن غزة المدمّرة، إضافة إلى اعتراف "حماس" بوجود مدنيين في إسرائيل، وتقديمها مرافعة عن عدم استهدافهم، وعدم مسؤوليتها عن أخطاء حصلت يوم العملية الهجومية.

على ذلك مفهوم أنّ للمقاومة ثمنها، ولكن ليس التضحية لأجل التضحية، وإنما توخّياً لعوائد سياسية، وكما يحق الاعتراف بنجاح "حماس" بضرب إسرائيل عسكرياً وسياسياً ومعنوياً، يجب عدم تحميلها مسؤولية هزيمة إسرائيل، ولا تخيّل انتصارات في واقع نكبة، إذ انّ الفلسطينيين كلهم لا يستطيعون ذلك وحدهم في هذا الظرف الدولي، لكنهم يستطيعون مقاومتها.

باختصار، نجحت "حماس" تكتيكيًا في إعداد ذاتها لمعركة، بشكل غير مسبوق ويستحق التقدير، لكنها أخفقت استراتيجيًا، لأنّها لم تهيئ شعبها، ولم تمتلك سبل حمايته من ردّة فعل إسرائيل، إذ بدا أنّ حكومتها المتطرفة تتحيّن الفرصة لشنّ حرب مهولة، حوّلت أكثر من مليوني فلسطيني إلى شعب يلهث وراء نقطة ماء ولقمة خبز ويعيش في العراء. ما يصح معه القول، للأسف، إنّ العملية نجحت لكن المولود ميت، وأصيبت أمه بالشلل. ولنلاحظ أنّ "طوفان الأقصى" استمر لساعات، في معركة قوية، في حين استمر طوفان حرب الإبادة الإسرائيلية قرابة خمسة أشهر، بأيامها ولياليها، وكل دقيقة منها، ذاق خلالها فلسطينيو غزة الأهوال، وحلّ في مدنهم الخراب، ويُخشى أن إسرائيل تريد استمرار الحرب لتقليص مساحة غزة وتقليص عدد سكانها، وتصعيب العيش فيها، وصولاً للتخفّف من كتلة كبيرة من سكانها.

لا يمكن مقارنة واقع الفلسطينيين في غزة، وواقع غزة قبل الحرب، على بؤسه، ومشكلاته، بواقعهم اليوم، وهذا هو المعيار الذي يجب ملاحظته والاحتكام إليه.  

Loading...