غزمودا وماسلو والأحمر المقلوب

 

إنها غزمودا، مثلث موت بالقصف والقنص، أو الجوع، أو الوباء، مثلث فقر وحاجة، وأشلاء مقطعة، ومثلث صمود غزة وخان يونس ورفح، والمثلث الأحمر المقلوب الذي يستهدف آليات العدو وأفراده. غزة قُلِبت رأساً على عقب، انقلبت فيها الحياة على قفاها، واختفت المسافة بين منازل الأحياء ومنازل الأموات.

فقد الغزي في حياته هرم ماسلو في معظمه، فقد احتياجاته الفسيولوجية برمتها، التنفس، والطعام، والماء، وضبط التوازن، والجنس، وفقد النوم، والقدرة على إيجاد حمّام لقضاء الحاجة، وفقد الغزي حاجات الأمان، الأمن الوظيفي، وأمن الإيرادات، والأمن المعنوي والنفسي، والأمن الصحي، وأمن الممتلكات الشخصية ضد الجريمة، وفقد الغزي طقوس الموت ومراسيمه، وقدسية الدفن، وأحزان الرحيل، وفقد الغزي الإحساس بالفقد، والإحساس بالموت، والإحساس بالحياة، ولكن هذا الغزي كحجر صوان، لا ينكسر، ولا يلين، ولا يهين.

يقف الغزي صامداً صلباً كأهرام خوفو وخفرع ومنقرع، ربما تعود أصول بعض الغزيين إلى الفراعنة القدماء، وربما بسبب انحدارهم من أصول العماليق من الكنعانيين القدماء، وربما بسبب مأساتهم الطويلة عبر التاريخ في مقارعة المحتلين، وربما لأن هذه الأجيال الجديدة، جاءت من قرى فلسطينية ما زالت فيها شجرة يانعة زرعها جد أو جدة للاجئ جاء أهله من عسقلان، أو المسمية، أو يِبنا، أو الشيخ موَنِّس، أو بيت دَجَن، أو صرَفَند، أو الفالوجة، أو بيت جبريل، أو دير آبان، أو الوّلَجِة.

لم أسمع طفلاً غزياً أو طفلة تطالب بالرحيل، لم أسمع طفلة ترغب في ترك أرض غزة، أطفال غزة يستشهدون، ويتألمون، ويجوعون، ويعطشون، ويبكون، ويسخرون من المحتل، ويضحكون، ويلقون بالنكات الساخرة، نكات شديدة الألم، ساخرة وتدعو إلى الضحك وسط الركام وفي قلب الدمار، فتقول سالي عن الخبز المصنوع من علف الحيوانات: "صِرنا ننهِّق"، وتضيف في وصف الخبز: "الخبز مُر"، وهي لا تأكله، وتكتفي بشربة ماء قد لا تكون من ماء عذب، لكن سالي ما زالت واقفة، قوية، شامخة، ساخطة، صامدة.

140 يوماً من الموت والصمود، 140 يوماً من البطولة والمواجهة، 140 يوماً وما زالت غزة عصية، تخرج منها العنقاء من الدمار، 140 يوماً وغزة تودع الشهداء صباح مساء، بالعشرات والمئات، في بطون الجرافات، وعلى ظهور "الكارات"، والدماء تسيل في الشوارع، وتبلل الأكفان، أكفان 13 ألف طفل، وتسعة آلاف امرأة، وآلاف الرجال من مختلف الصنوف، ومن بينهم الصحفي، والمسعف، والطبيب، ورجل الدفاع المدني، والمسن، والمريض، والمقعد، والخباز.

الشاهد في كل ذلك أن إسرائيل هُزمت في هذا النزال هزيمة غير مسبوقة، ضُربت على رأسها كما ضُربت الروم، وأهين جيشها، وفقدت التوازن، ليس الغزي وحده من يفقد التوازن، وليس الغزي وحده من مات، وليس وحده من تألم، والشاهد أن غزة مقدّمة لزوال الاحتلال، ومقدّمة لنزال يتبع هذا النزال، ولمعركة تحرير سيتسع مداها، وتتواتر حتى يزول الاحتلال، ولا بأس في استمرار الاستيطان، فكل ما يشيده الاحتلال على أرض فلسطين، سيصبح يوماً مغنم حرب التحرير، فالاستيطان لا يحمي المستوطن، ولا يحمي دولة الاحتلال، ولا يضمن بقاءها على أرض الآخرين، ومن يريد أن يتأكد من صدق قولي، عليه أن يذهب إلى الجزائر، ليرى مغانم شعب الجزائر من فرنسا الاستعمارية التي أشادت معماراً لا يصدق من يراه، أنها كانت تظن يوماً، أن يوماً سيأتي، وتخرج من أرض الحرية.

Loading...