إذن فقد قدّمت حكومة محمد اشتية استقالتها للرئيس الفلسطيني محمود عباس، كما هو متوقّع، في محاولة من القيادة الفلسطينية للتكيّف مع استحقاقات ما بعد حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل منذ خمسة أشهر على قطاع غزة، وضمن ذلك سد الطريق عليها، أو استباق محاولاتها فرض واقع جديد، يتلاءم مع مصالحها، بسعيها استعادة سيطرتها على القطاع، بشكل مباشر أو مداور، أو بسعيها لفرض واقع سياسي وأمني يتيح لها خلق تشكيلة سياسية فلسطينية موائمة لها.
هكذا، فإن القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و"فتح"، تحاول التجاوب مع الدعوات الدولية لإحداث تغيير في جسم السلطة والمنظمة، بدعوى الإصلاح، وقطع الطريق على إسرائيل للتحكم في مصير غزة، في حين تريد إسرائيل من فرض هيمنتها على القطاع، قتل فكرة الدولة الفلسطينية، بترسيخ فصله عن كيان السلطة الفلسطينية في الضفة، إضافة إلى إخراج "حماس" من المشهد السياسي الفلسطيني، وتقديم ذلك كانتصار للإسرائيليين، وكتعويض عن الضربة الأمنية والمعنوية التي تعرضت لها يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023).
هذه الاستقالة تكرّر أو تذكّر بحادثة مشابهة كان بطلها الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس، فقد كان أول رئيس وزراء، بعد ياسر عرفات، الذي احتل ذلك المنصب منذ إقامة السلطة الفلسطينية (من مايو/أيار 1994 إلى أبريل/نيسان 2003)، إضافة إلى كونه رئيسا للمنظمة وللسلطة وقائدا لحركة "فتح".
وللتذكير، ففي حينه كان الفلسطينيون في خضم الانتفاضة الثانية، التي تعسكرت، وغلب عليها طابع العمليات التفجيرية ("الاستشهادية")، وكان ياسر عرفات محاصرا من قبل القوات الإسرائيلية في مقره في رام الله (منذ أواخر عام 2001)، مع منع أي تواصل له مع العالم الخارجي، والحد من قدرته على إدارة الوضع الفلسطيني، بدعوى دعمه للمقاومة المسلحة. وفي حينه أيضا، ضغطت الولايات المتحدة، مع أطراف دولية وعربية، لإرغامه على تقليص صلاحياته، بدعوى إصلاح السلطة، وضمن ذلك إيجاد منصب رئيس حكومة لشخص آخر.
في المحصلة، فقد جاء محمود عباس حينها (الرئيس الحالي للسلطة)، كرئيس للحكومة على رغم تبرم ياسر عرفات من ذلك، ما خلق توترا بينهما، في الإطارات القيادية وفي البيئة الشعبية، سيما مع التشكيك بصدقية محمود عباس الوطنية، كونه جاء بضغط أميركي وإسرائيلي، الأمر الذي دفع هذا الأخير لتقديم استقالة مدوية، وقتها، عبّر فيها عن مرارته من الحد من صلاحياته وغضبه من التشكيك في وطنيته، إذ لم يبق في المنصب سوى عدة شهور، من أبريل/نيسان إلى سبتمبر/أيلول 2003.
طبعا، بقية القصة معروفة، فاستحداث ذلك المنصب لم يفض إلى إصلاح النظام السياسي الفلسطيني، إذ إن محمود عباس، الذي خلف ياسر عرفات في قيادة المنظمة والسلطة و"فتح"، تخلّى هو بذاته عن انتقاداته، التي أخذ فيها على الزعيم الراحل، القيادة الفردية، وعدم احترامه المؤسسات والأطر القيادية، وجمعه بين قيادة المنظمة والسلطة، إذ هو ذاته فعل أكثر من ذلك، في تهميش المنظمة، والإمعان في القيادة الفردية، وحل المجلس التشريعي، وإضعاف المجلس الوطني، وتركيز كل السلطات في يده، فضلا عن تسببه في إضعاف مكانة "فتح"، كحركة تحرر وطني، في المجتمع الفلسطيني وفي الصراع ضد إسرائيل.
هذا يفيد بتشابه الظروف، كأن التاريخ يكرر ذاته، بمرارة، وبصورة كاريكاتيرية، وبذات الادعاءات، بين استقالة محمود عباس، واستقالة محمد اشتية، إذ ما تم فرضه على ياسر عرفات، ورضيه محمود عباس، يعود هذا الأخير لتجرعه من الكأس والادعاءات ذاتها.
على أية حال، شهد كيان السلطة الفلسطينية، منذ إنشائه، قبل ثلاثة عقود حتى استقالة حكومة اشتية، ستة رؤساء حكومات (باستثناء ياسر عرفات)، هم على التوالي: محمود عباس (عدة أشهر من عام 2003)، أحمد قريع (2003-2006)، وإسماعيل هنية (2006-2007)، وسلام فياض (2007-2013)، ورامي الحمد الله (2013-2019)، ومحمد اشتية (2019-2024)، علما أنه في غضون تلك السنوات تشكلت 18 وزارة، إذ ثمة رؤساء وزارات شكلوا أكثر من حكومة (هنية، وفياض، والحمد الله).
وما يمكن قوله هنا إن السلطة الفلسطينية تكابد من كونها سلطة على شعبها، تحت سلطة الاحتلال أصلا، وليس لها سيادة على الأرض والمعابر والموارد، ولا عملة خاصة، لكن مع وزراء وسفراء وعلم ونشيد، وأن النظام السياسي الفلسطيني يعمل كنظام رئاسي، يستحوذ فيه الرئيس على جميع السلطات، إذ الديمقراطية تنعكس فقط في الانتخابات، وهي مجمدة أصلا، منذ عام 2006، أي إننا إزاء ديمقراطية ناقصة، لا تولي أهمية لدور المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، وهما مسألتان على غاية من الأهمية، في تعزيز قوة المجتمع الفلسطيني، ليس لحاجته لذلك فقط، وإنما أيضا لتقوية مكانته ضد الاحتلال، مع ملاحظة السهولة في حل الرئيس للسلطات التشريعية والقضائية، وايلاء أجهزة الأمن أهمية كبرى في استقرار السلطة.
المشكلة أيضا أن الرئيس محمود عباس معروف بتشبثه بالسلطة الفردية، ما يعني أنه بحاجة إلى رئيس حكومة يعمل وفق توجيهاته، الأمر الذي قد يخلق توترا بين الرئاستين، في حال تعيين رئيس حكومة قوي، له رأيه وخياراته وحيثيته الشعبية.
المغزى أن إصلاح النظام الفلسطيني لا يقتصر على تغيير شخص رئيس الحكومة، أو أي شخصية في منصب آخر، فذلك يحتاج أساسا إلى إحداث تغييرات عميقة، باتجاه فكّ الارتباط بين قيادة المنظمة وقيادة السلطة، وتعزيز الحياة الديمقراطية في الكيانات السياسية الفلسطينية السائدة (المنظمة والسلطة والفصائل)، واستعادتها لطبيعتها كحركة تحرر وطني، بدلا من الاتكاء على واقعها كسلطة تحت الاحتلال، كما يتطلب ذلك تعزيز وتقوية المجتمع المدني ومؤسساته.
حكومة جديدة إذن، لكن واقع حال الحركة الوطنية الفلسطينية يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير، خاصة لمواجهة التحديات التي تفرضها سياسات إسرائيل على الفلسطينيين من النهر إلى البحر.