مقالات مختارة

القضيّة الفلسطينيّة ومعارك المنعرج الأخير

بقلم: فوزي النوري*

ما لا تخطئه العين أنّ القضيّة الفلسطينيّة هيّ أفيون الشعوب العربيّة المقهورة حيث اجتهدت الذاكرة الجماعيّة لتلتقي حول حلم مشوّه يمكّنها من الإفلات من واقعها الموبوء والمبتذل الذي اكتملت فيه عناصر المأساة بين الديكتاتورية والظلم والفقر والعجز.

ليتّجه هذا الحلم نحو "قدس مقدًس " يمكّن هذه الكائنات اللًاسويّة و الحالمة من مساحات واهمة يعلنون من خلالها إنسانيتهم و يمكّن تجًار الشأن العام من السياسيين في دول المنطقة من التسلًل لتلك البنية الذهنيّة الهشًة وتخديرها وتحريك شعوب بأسرها بكلمتين سحريتين: "فلسطين عربيّة" وتنتصب تنظيمات وتحكم أنظمة بإسم ذلك الحلم المشوّه وتلك الكلمات المفاتيح لتلتقي تجارة الوهم بتجارة القضيّة في أذهان تلك الكائنات الذليلة المقهورة فتشكّل لوحة سرياليّة لا يبصرها إلاّ الراسخون في الواقعيّة السياسية والمدركون للعناصر الموضوعية التي على أساسها يتحدّد الفعل السياسي: الواقع الموضوعي للتربة المحلّية، الموازنات السياسيّة الدّوليًة، الظرفيّة التاريخية والسياقات الموضوعيّة، ورقات الضغط وهامش المناورة.

بعيداً عن الدجل السياسي لا خلاف فوق سطح هذا الكوكب على عدالة القضيّة الفلسطينيّة ولا حدود للمتعاطفين معها ولا خلاف حول الفظاعات التي ارتكبتها الصهونيّة في حقً الفلسطينيين وبالتالي فالمسألة محسومة من الناحيّة المبدئيّة والقانونيّة والأخلاقيّة أمّا مهرجانات الخطابة والحماسة والشعارات القصووية  فتندرج في إطار التذكير الذي "ينفع" الأنظمة ولا ينفع الشعوب سواءً كانوا من المؤمنين أو العلمانيين.

خسر العرب كلّ حروبهم ضدّ الصهيونيّة وحتّى الانتصارات التي تشبه الهزائم لم تحرك حجراً في الموازنات السياسية في الشرق الأوسط بل انتهت بخلق مسارات سلام ليختنق الفلسطينيون في النهاية بحبال التطبيع التي تطوًقهم من كلّ الجهات ولتفقد القضيّة عمقها الاستراتيجي في مستوى رسمي لنكتفي في النهاية شعوباً وأنظمة بمشاهدة حرب إبادة جماعيّة بأتمّ معنى الكلمة حيث تتساقط أرواح الأطفال كأوراق الخريف وتتطاير أشلائهم الطًاهرة في سماء غزّة في كلّ لحظة ويبتعد الخطاب عمّا يحصل على الأرض وليس هنالك في هذا السياق أبلغ ممّا قاله درويش "قصب هياكلنا وعروشنا قصب في كلّ مأذنة حاوٍ ومغتصب يدعو لأندلس إن حوصرت حلب".

لقد عمّقت الأنظمة العربيّة الانقسام الفلسطيني بين حركة فتح وحماس "لغاية أعدًها يعقوب "بالتنسيق مع كلّ اليعقوبيين في المنطقة، هذا الانقسام الذي حصل بعد وفاة عرفات أفقد القضيّة بريقها وأضعفها مهما كان الخيار الذي نتّجه إليه في حين نجحت منظًمة التحرير بكلّ تفصيلاتها المقاومة والمُفاوِضة في إحراج الإسرائيليين وتشتيت خياراتهم وقد سمحت هذه التوليفة بتحريك القضية الفلسطينية في محطّات أكثر حدّة وخطورة من اليوم.

إنّ الانقسام داخل حركة فتح والذي بلغ مداه في صراع أبو مازن ودحلان عمّق حالة الوهن داخل البيت الفلسطيني وسهّل على الإسرائيليين الانفراد بالسلطة الفلسطينية في مرحلة ما قبل 7أكتوبر واليوم يحاصرون حماس في غزّة ويسوًقونها للعالم كحركة إرهابيّة لا تشبه الفلسطينيين أنفسهم من غير "الحمساويين" تسنده في ذلك آلة إعلاميّة جبّارة وتوافقات سياسات استراتيجية.

لا تكفي عفويّة هذه الشعوب العربيّة الساذجة والبسيطة ولا هتافاتها وأدعيتها وتضرًعها للّه لتغيير الموازنات في الشرق الأوسط ملّيمترا واحد، هذه الشعوب المؤمنة والتي يمكن أن "تلدغ من جحورها عشرات المرًات "كرّرت نفس ردود الأفعال في كلّ نكبة تعرًض لها الفلسطينيون بشكل يجعلها تستجيب لتعريف الغباء عند أينشتاين "هوً فعل نفس الشيء مرتين بنفس الاسلوب ونفس الخطوات وانتظار نتائج مختلفة".

إنً هذه الشعوب العاجزة عن تحرير نفسها من الديكتاتوريّات التي تحكمها والتي لم تفكّر يوماً في استعادة حرًيتها وكرامتها لا معنى لحراكها ولا لتحرًكها فكيف لهذه الشعوب التي تحدًد يوما مصائرها أن تغيّر مصير القضيّة الفلسطينية والتي تمثّل "شعرة معاوية" لكلّ الموازنات السياسية الدوليّة في الشرق الأوسط.

لقد آن الأوان لتكون القضيّة الفلسطينيّة فلسطينيّة بالفعل وأن تسحب الأيادي العربيّة التي تدعم الانشقاقات داخل الفصائل وتتاجر بدماء الفلسطينيين أمًا "الجامعة المفرًقة للدول العربيّة" التي عصفت بها الصراعات الجيوسياسية فلم يبق لها من دور سوى رسم الابتسامة على هذه الوجوه اليائسة العابسة وإن كان إكرام الموتى أرقى وأكثر إنسانية.

بعيداً عن النفاق العام و"الثرثرة العامّة" إنّ الاصطفاف وراء المقاومة من خلال الهواتف النقّالة  ووسائل التواصل الاجتماعي والتلذًذ برفع الشعارات النبيلة لا تتطلّب جهداً خاصّاً ولكنً بمجرًد التفكير فيما يحصل للفلسطينيين بالفعل وبوضع أنفسنا موضع ممّن فقدوا أطفالاً في عمر الزهور أو اليتامى ممّن فقدوا آباءهم وأمهاتهم … إنّ الجميع يشاهدون بعين مجرّدة من الإنسانية والعمق وهنا نكتفي بهذا القول لأنّ "ذلك كذلك" على حدّ تعبير الجاحظ.

اليوم وفي هذه المرحلة بالذات وبالنظر للوضع الإقليمي والدّولي إذا لم تتحّد الفصائل الفلسطينيّة تحت قبّة منظّمة التحرير وتواجه هذه العاصفة التي أصبحت حرب إبادة جماعية بأتّم معنى الكلمة فإنّنا سنضع بعد فترة لن تطول كثيراً إكليلا من الزهور على القضيّة برمّتها أمّا عن التقسيمات الأخلاقوية الساذجة و التي تختزل حركة فتح العظيمة في أداء بعض قادتها (محمود عبّاس) أو ترغب في استثنائها من أيّ المسارات و كلّ المسارات، إنّ حركة فتح هيّ بوصلة القضيّة الفلسطينية وهي التي راكمت في صراعها مع الإسرائيليين ما لم يراكمه أيّ فصيل ولتعلم شعوبنا الطّيبة أنّ حركة فتح هيّ من أطلق أولى الرصاصات على العدوّ وأنًها قدّمت ولا تزال قوافل الشهداء.

إنّ أخطر ما يحصل هوّ تحييد حركة فتح عن المشهد وتحييد قياداتها التاريخية عن المساهمة في القرار السياسي في هذه المرحلة الدقيقة والحاسمة.

لكي لا نطيل أكثر وبعد إعلان القدس عاصمة لإسرائيل والذي يعتبر الحدث الأخطر على الإطلاق منذ 1948 بما فيها ما يحصل اليوم وهذا التقييم لا علاقة له بقدسية القدس بل برمزيته لأنّ أخطر ما يمكن أن يحدث لقضيّة ما هوّ قتل الرمزيات وذلك لتداعياته الخطيرة على البنية الذهنيّة والنفسيّة للمعنيين بالقضيّة ولكنّ هذه الشعوب الطّيبة لم تدرك ذلك ولن تدرك.

* كاتب ومحلل سياسي تونسي

عن جريدة الصباح

Loading...