بقلم: حسن أبو لبدة
وأخيراً أُسدل الستار على الحكومة الأقل شعبية والأكثر جدلية، على ما أعتقد، منذ قيام السلطة الفلسطينية، وقد اتسمت مرحلتها بالكثير من القضايا التي ستحسب في ميزان سيئاتها، والقليل من الإنجازات المحسوسة، والعديد من القرارات الإقتصادية المعبرة عن مدرسة إستحواذية لقطاعات إقتصادية إستراتيجية كالمحاجر والكسارات والكهرباء والمياه (خلافا للقانون الأساسي وكتاب التكليف)، وتهميش لدور القطاع الخاص والمجتمع المدني، ناهيك عن الكم الهائل من التغييرات والتعديلات التشريعية في مجالات عديدة وعلى رأسها قطاع العدالة، رغم أن جزءً منها فقط كان بمبادرة الحكومة، وجزء أكبر بمبادرة مجلس القضاء الأعلى، والباقي بمبادرة من أطراف أخرى ذات سطوة ونفوذ.
في المقابل، تخللت فترة ولايتها تحديات شبه مستحيلة كجائحة الكورونا وتولي اليمين المتطرف مقاليد الحكم في إسرائيل، والعدوان الإسرائيلي على غزة وما ترتب عليه من مجازر ودمار لا يتخيله عقل، واستنكاف المانحين عن الحفاظ على مستويات الدعم المالي المعتادة، سواء لدعم الرواتب أو الموازنة التطويرية، مما حد من قدرة الحكومة على إنجاز برنامجها.
الأسئلة الملحة اليوم هي: هل خطوة الرئيس تكتيكية للتخفف من الضغوط الدولية أم خطوة إصلاحية حقيقية؟، وأي حكومة ستخلفها من حيث التوقيت والأهداف والوظيفة والبرنامج والصلاحيات والولاية الجغرافية والشمول السياسي؟، وماهي مرجعيتها التشريعية والإدارية؟، وهل ستكون استمراراً للحكومة المنتهية من حيث النهج والمرجعية، أم حكومة متجددة كما يرغب بذلك اللاعبون الكبار في العالم الغربي، رغم الغموض بشأن المقصود “بالتجدد”؟، ومن سيمولها في ظل إفلاس السلطة؟، وهل ستكون مخولة بشكل جدي للمضي في برنامج إصلاح تشريعي وسياساتي وإداري ومالي حقيقي؟، وكيف سيكون موقفها في مسألة تصويب الإختلالات التي راكمتها الحكومة المنتهية بالشأن الإقتصادي، والعلاقة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني كشركاء حقيقيين في المغرم والمغنم؟.
إن الحرب المدمرة على غزة والتحديات الناتجة عنها، تستدعي انفتاح النظام السياسي جديا على إحياء م.ت.ف. وتوسيعها لتشمل أطراف الإنقسام، والقبول بتغييرات جوهرية بشأن إدارة الشأن العام والتدخلات واجبة الحدوث لنصرة أهلنا في غزة في مأكلهم وأمنهم ومسكنهم، وتكليف حكومة معبرة عن إرادة الكل الفلسطيني وتتمتع بصلاحيات واسعة نص عليها القانون الأساسي المعدل، بصفتها حكومة “اليوم التالي” للحرب. ولذلك فإن تشكيل حكومة جديدة لا بد أن يأتي كترجمة للتوافق الوطني على مفهوم “اليوم التالي”، وكخطوة إصلاحية حقيقية واستراتيجية، ويعبر عن استجابة وطنية لاحتياجات قطاع غزة في كافة المجالات بالدرجة الأولى، وليس استجابة لضغوط خارجية بشأن تأهيل السلطة وتجديدها لتكون مقبولة على دول المحور الغربي المشاركة في العدوان على شعبنا وإسرائيل.
لا يحتمل الوضع الراهن ومستقبل قضيتنا استمرار تحييد م.ت.ف. والإنقسام وتمترس الفصائل خلف مصالحها ومواقفها التي تتعارض في بعض جوانبها مع المصالح الوطنية، ولا أمل بيوم تال للحرب بشكل ومحتوى فلسطيني بحت دون الخروج من نفق المحاصصة القائم اليوم. ولا بد من سرعة التوافق على ملامح وجوهر “اليوم التالي للحرب” فلسطينياً، الذي ينطلق من مبادئ صون المصالح الفلسطينية وتكريس هذه المرحلة لاستثمار الزخم الدولي باتجاه مسار قيام دولة فلسطينية ذات محتوى مستند الى قرارات الشرعية الدولية. وإن أي حكومة قادمة لا تحظى بالتوافق بين مكونات الكل الفلسطيني على برنامجها ستشكل امتداداً وتكريساً للوضع القائم، وستولد مية.
بغض النظر عن ظروف تشكيل الحكومة سياسياً، هناك تحديات شبه مستحيلة تواجهها، وفي مقدمتها إفلاس السلطة وتقطع أوصال الضفة واستحالة وضع غزة. وحتى لو قامت إسرائيل بالإفراج عن أن أموال المقاصة، فإنها سترد منقوصة بشكل كبير نتيجة للإقتطاعات المختلفة، ناهيك عن اشتراطات صرف قد تتعارض مع الموقف الوطني، ولن تكون كافية لتوفير الرواتب والمخصصات في ظل التراجع الإقتصادي الحاد نتيجة للحرب، والتراجع الكبير في الإيرادات المحلية. فما بالك حين يضاف الى كل عبئ تمويل الجهد الإغاثي الطارئ والمتوسط وطويل المدى في غزة والى حد ما شمال الضفة الغربية، وبرنامج الإعمار الطارئ للبنية التحتية والإيواء والتعليم والصحة.
لا يوجد في الأفق ما يؤشر الى إمكانية إعادة الحياة لقطاع غزة بدون التوافق المشار إليه، ولا أعتقد أن المجتمع الدولي بأطرافه العربية والإقليمية والدولية سيهب للتبرع والإلتزام بمبالغ كافية لمواجهة التحديات في غزة بدون الشروع بترتيب البيت الفلسطيني، وهناك تسريبات من أطراف مختلفة حول اشتراطات الإنخراط في تمويل “اليوم التالي”، والتي ينطوي بعضها على أمور غير مقبولة فلسطينيا، ناهيك عن أن التلويح بالإعتراف بدولة فلسطينية لن يشكل حلاً سحريا للمعضلات التي نواجهها.
سيقترف النظام السياسي خطأً جسيماً بتشكيل الحكومة خارج التوافق بين مكونات الكل الفلسطيني الرئيسية، حيث أن أي حكومة قادمة يجب أن تعبر عن إرادة الكل الفلسطيني، ولا بد من وجود تمثيل ولو مستتر لحماس في تشكيلتها، وإلا فإن واقع الإنقسام سيتأبد، وسيجد النظام السياسي نفسه معزولا وغير ذي صلة في جهود إغاثة غزة وإعمارها. ومن الخطورة بمكان القبول بمجرد إحلال حكم السلطة محل حكم حماس في غزة، لأن السلطة في هذه الحالة ستوصم بالتواطؤ مع إسرائيل في تدمير غزة.
لا مكان لحكومة تشكل استمراراً لما فات، وهي مطالبة بالعمل على خطة إصلاح شاملة تتضمن برامج إصلاح إقتصادي مالي إداري، وإصلاح عدلي قضائي يعيد للقضاء استقلاليته وهيبته ونجاعته، وجدول زمني لعقد الإنتخابات الرئاسية والتشريعية، وبرنامج إصلاح الحكومة بما يؤدي إلى تقليص جوهري في عدد الوزارات والمؤسسات العامة وحجم الكادر الوظيفي، وبرنامج إصلاح قطاع الأمن إدارياً ومالياً، ووقف التعيينات والعمل على تقليص جوهري في أعداد المنتسبين، وبرنامج إصلاح منظومة مكافحة الفساد وتكريس الإستقلاية التامة لهيئة مكافحة الفساد، وتطبيق نظام مساءلة شفاف والعمل على قاعدة أن الجميع تحت القانون ولا استثناء لأحد مهما على شأنه أو نسبه.
إن مهمة إعادة إعمار غزة واستعادة كرامة أهلها أكبر من أي حكومة مهما علا شأنها، ولا بد لهذه المهمة أن لا تخضع للإعتبارات الفصائلية بتاتاً، ولذلك فلا مناص من المبادرة الى تشكيل هيئة دولية مستقلة بالكامل ومخولة إداريا وماليا لقيادة جهود الإغاثة وإعادة الإعمار في غزة، وإدارة الموارد المالية المتأتية من تبرعات المانحين بشفافية ونجاعة، وتعمل وفق أولويات وبرنامج وجدول زمني مقبول وطنيا، وتخضع لمراقبة جهات دولية ومحلية يتفق عليها مع النظام السياسي المكتمل بحماس والجهاد، وتنسق مع الحكومة بشأن تحديد أولويات العمل والمعالجة.
هذه هي الحكومة التي نستحقها الأمس واليوم والى الأبد، حكومة تحمل أعباء “اليوم التالي” بجدارة، تضع نصب أعينها مهمة إغاثة غزة وأعادتها للحياة، تعمل لمصلحة الشعب أيا كان مذهبه وفق برنامج وطني يعبر عن إرادة الكل الفلسطيني، خاضعة لإشراف ومساءلة م.ت.ف.، شفافة في ما تقوم به، منفتحة على الجمهور وتؤمن بالشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني وتمارسها، وتمنح الأمل لأي مواطن بأن حقوقه مصانة تماما. إن شعباً عانى وضحى وخسر فلذات أكباده يستحق حكومة تمثله وليس حكومة تمثل النظام السياسي، وزراؤها يعملون كخدم للشعب بدون مواكب وحواجز وفاعلون في تشغيل وزاراتهم وتسخيرها لمصلحة المواطن.
أخيراً، عادة تمنح الحكومات عند تشكيلها مئة يوم للبرهنة على أنها جديرة بثقة الشعب والبرلمان، ولكن حكومتنا العتيدة لن تحظى بهذا الترف، وستكون مضطرة للبرهنة أمام أهلنا المكلومين في غزة على جدارتها منذ اليوم الأول لتوليها مهامها. وسينتظر الجميع للإطلاع على فحوى تكليفها والخطوط العريضة لبرنامجها. المطلوب منا جميعاً منحها الثقة والدعم لهول وحجم المسؤوليات المنوطة بها، الى حين أول سقوط لها في امتحان الجدارة. وأنا أول الداعمين الى حين يثبت العكس.