استحقاقات وطنية واجبة لشعبنا

الرؤية والبرنامج والأدوات

في وقت تتصاعد به أشكال التضامن الدولي الشعبي غير المسبوقة مع شعبنا في شوارع العالم التي يتوجب إدراك استثمارها بالاتجاه الصحيح والمؤثر، واستمرار دولة الاحتلال بارتكاب المجازر الجديدة ضمن عدوان الإبادة دون اكتراث للانتقادات الدولية، واصرار الولايات المتحدة تأكيدها من جديد على سياساتها الشريكة بالعدوان من خلال منع مجلس الأمن من اصدار بيان يدين مجزرة الطحين/ ميدان النابلسي يوم أمس في غزة وإعاقة محاولات وقف إطلاق النار.

في ظل كل ذلك، وبالإضافة إلى تصاعد الصراع داخل المجتمع الحزبي بدولة الاحتلال وعسكرة المجتمع الإسرائيلي وربط نتنياهو مواصلة حكمه باستمرار عدوان الإبادة وتحضير سيناريوهات معركة رفح وفق رؤيته التي قدمها إلى مجلس حربهم التي يقلل بها من أهمية صفقة الأسرى والهدنة، بل ويهدد فيها من توسعة رقعة الحرب بالمنطقة.

 إن عقول وقلوب شعبنا منذ أن بدأت حرب التدمير والإبادة والتهجير والتجويع التي تفوقت على ما سبقها بتاريخنا المعاصر لم تعد تستوعب هذا التسارع بحجم التضحيات من الشهداء والجرحى والمفقودين، رغم ما تلحقه المقاومة من خسائر في صفوف جيش الاحتلال.

إننا وأمام ذلك نسمع اليوم عن ورقة حل عربي وفقا لخارطة طريق جديدة تحدد ما هو المطلوب منا فلسطينياً خاصة بما يتعلق بإصلاحات عميقة سياسية وحزبية مرتبطة بمسار سياسي، دون أن يتم  التفكير فيها بضرورات مراجعة كافة جوانب العلاقة مع دولة الاحتلال، وكأنها محاولات للعودة للمربعات الأولى التي رفضتها دولة الاحتلال كالمبادرة العربية وحل الدولتين والأرض مقابل السلام .

فما زال شعبنا في غزة كما في كل فلسطين وعلى مدار 76 عاماً من القهر يقَدم تضحيات كبيرة في مواجهة ومقاومة هذه الفظائع وفي سبيل حقوقه المشروعة أسوة بشعوب العالم في تقرير مصيره وحريته واستقلاله الوطني باختلاف أساليب وأشكال المقاومة وتنوعها وفق ما أقرته القوانين الدولية لشعب يكافح من أجل إنهاء الاحتلال .

مراحل متعددة من مسار حركتنا الوطنية على مدار تلك العقود الطويلة منذ ما قبل أن شُردنا من ديارنا الأصلية ومحطات هامة انتقلنا بها من مأساة لأخرى كانت تستوجب منا الوقوف عند كل منها من أجل المراجعة والتقييم والاستفادة من دروسها حتى لا تتكرر جوانب الاخفاق في تجاربها والتي حملت في تعقيداتها من جهة أخرى أوجه من الانجاز الوطني تلخصت بالحفاظ على ديمومة القضية الوطنية لكن دون التمكن من الوصول إلى الحرية والاستقلال الوطني .

وقد جرى كل ذلك من دون إخضاع أي من تلك المفاصل والمحطات من تاريخنا للدراسة أو النقد، في واقع غابت فيه المشاركة السياسية الشعبية التي ابتعدت وفق خصوصية المراحل السابقة عن مفاهيم القيادة الجماعية، ومراكز صنع القرار تحت مبررات مختلفة بحكم وجود شعبنا تحت الاحتلال أو بالمنافي والشتات .

عقود واجهنا فيها وما زلنا مجموعات استيطانية ادعت لنفسها مقومات "شعب" دون أرض التي حظيت بالشراكة الإستراتيجية مع الغرب الاستعماري الذي أنشأها وشكل الحاضنة لها وما زال حتى اليوم، والتي حالت دون أن يتحقق لشعبنا ما يسعى له من حقوق مشروعه سياسية وتاريخية وقانونية، وهي الآن تحاول إنجاز مشروعها الاستعماري الصهيوني التوراتي بتسارع غير مسبوق بجرائم تفوق جريمة النكبة الأولى وبتوسعة غير مسبوقة للاستيطان وفق قرارات الأيام الماضية لحكومة الاحتلال .

ورغم ذلك فإن حقيقة المواجهة والانخراط بالدفاع عن شعبنا هو ما يجب أن يشكل توجهات اليوم بالعمل السياسي العام، رغم اصرار البعض على احتكار المعرفة والمعلومة لذاتهم، وشعورهم بأنهم هم فقط من يمتلك الحقيقة المطلقة أو على الأقل لديهم لوحدهم القدرة على التفكير في مجريات الأحداث واتخاذ القرار نيابة عن الجميع بإدارة الأزمات أو بما يتعلق بقرار السلم والحرب أو بقرارات لا تنسجم مع ضرورة تكامل المقاومة بأهداف العمل السياسي وبتجنيب شعبنا الخسائر مع اشتداد حرب شوارع بمواجهة رابع أقوى جيش الذي يعاني اليوم حالات من الصدمة .

وقد ساهم في غياب التنسيق حول ذلك ودور المشاركة العامة لشعبنا في تلك التوجهات ظروف شعبنا التي أشرت لها بالبداية، تعذر المشاركة السياسية عبر الانتخابات العامة وتحديداً منذ 20 عاماً والتي أبقت على الانقسام قائماً بفعل إجراءات غير دستورية .

بالعمل السياسي المتفاعل لا يتوجب أن يوجد مكان لآراء مطلقة، فكافة الآراء يجب أن تقبل النقاش وتخضع إدارتها للمسائلة والمكاشفة وفق معايير قياس موضوعية خلال مسيرة الوصول إلى الأفضل نسبياً نحو حل الأزمات، خاصة في ظل زمن من المتغيرات المتسارعة للأحداث التي تتغير بها الوقائع السياسية، فتصبح الآراء جامدة إذا لم تتسم بحركة ومشاركة واسعة توائم سرعة المتغيرات.

إن عدم التعاطي مع هذا الفهم من جدلية التاريخ قد يسبب شللاً سياسياً، أو أنه قد سبب إلى حد ما، يعيق من أداء العمل السياسي الناجح لمحاولة الوصول إلى ما يمكن أن يتحقق من الأهداف العامة المرتبطة بحقوق شعبنا غير القابلة للتصرف.

للأسف فإن كثير من الفاعلين السياسيين ما زالوا يرون في الشعب كمفعول به سياسياً، حيث تبقى السياسة حكراً لهم من وجهة نظرهم الضيقة وفق مفاهيمهم ورغبتهم بالبقاء بسلطة الحكم أو بقيادة الفصائل دون فهم دواعي وضرورات التغيير المستمر .

ولكي نعيش في مجتمع متفاعل يَعي معنى التغيير، فإن على الكل الفلسطيني المشاركة في العمل السياسي بشكل علني شفاف، باعتبار ذلك الشكل الوحيد الذي يُخرج الفرد من تقوقعه ويربطه بالآخرين. فبعكس المهن، فإن العمل السياسي لا يتم إلا من خلال العلاقات الاجتماعية والتفاعل المجتمعي النشط بكافة القضايا ذات العلاقة بالمصلحة العامة، ومن أهمها ممارسة الواجبات ونيل الحقوق وفق ما نصت عليه المواثيق وخاصة نصوص وثيقة إعلان الاستقلال والنظام الأساسي.

فكيف عندما تكون هذه المصلحة العامة هي مصلحة قضية ووطن وشعب يتوجب الحفاظ على وحدة مكوناتهم الثلاثية يعاني من شتى أنواع الاضطهاد بل ومحاولات كي وعيه الجمعي ونفي سرديته التاريخية وممارسة مختلف أشكال التطهير العرقي بحقه من جانب الحركة الصهيونية وأدواتها، في وقت تقتضي الحقيقة وضوح مشروعنا التاريخي التحرري النقيض.

وحيث لا يوجد مستقبل بدون مشاركة الناس بأمور حياتهم، علينا إذا أن نتجه إلى مصدر السياسة الحقيقي، ونعمل على تفعيله وإعادته للحياة في إطار من المشاركة العضوية خاصة ونحن نعيش الآن مرحلة تاريخية استثنائية معقدة ستحدد مستقبلنا لعشرات السنين، فهل سنكون على مستوى المسؤولية؟ 

حتى أن السلطة المتجددة التي اقترحها بايدن في محاولة لتشوية المفاهيم بإدعاء أن غياب الإصلاح هو المشكلة وليس الاحتلال الذي لا تسعى الولايات المتحدة والغرب عموما إلى تصفيته، رغم أنه جذر المشكلة كما يعلم بايدن والمجتمع الدولي الذي بمعظمه أصبح ينظر إلى دولة الاحتلال على حقيقتها. فإن تلك المطالب تُذكرنا بما كان مطلوباً من ياسر عرفات قبل استشهاده الذي خططوا له .

إن قطاعات واسعة من شعبنا تريد أن ترى رؤية متجددة ومنهج عمل ديناميكي بأدوات جديدة  يعتمد استقلالية القرار الوطني والمصلحة الوطنية لشعبنا دون غيرها من المصالح التي يحاولون فرضها علينا بوسائل مختلفة لتحقق مصالحهم هم بالمنطقة وخاصة منها مشروعهم لتفوق إسرائيل بالشرق الأوسط الجديد الذي يسعون له.

ويختلف ذلك من حيث الجوهر والرؤية والمنهج عن ضرورات الإصلاح من منظور وطني فلسطيني وبما يعزز من الشفافية واَليات المسائلة والمحاسبة واستقلال القضاء واحترام الحريات العامة على أسس من سيادة القانون والفصل بين السلطات والتي كان علينا تنفيذها بقرار وطني منذ عقدين من الزمن أو أكثر، حتى لا تبقى كقميص عثمان عند الغرب .

لقد بات مطلوباً اليوم من جهة أخرى الفصل بين السلطة والمنظمة كمرجعية سياسية في سياق ترتيب وظائف المؤسسات التمثيلية الفلسطينية وبما يضمن إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة هيكلة مؤسساتها كممثل شرعي وحيد وتفعيل دورها المناط بها أساساً كجبهة وطنية عريضة وبقيادة موحدة تعبر عن الهوية الوطنية الجامعة لشعبنا في كافة أماكن تواجده بما يمثل دورها كعنوان للتحرر الوطني والبناء الديمقراطي حتى الوصول إلى دحر الاحتلال وتقرير المصير وتحقيق الاستقلال الوطني وحل قضية اللاجئين في فلسطين التي تبقى هي الوطن لنا.

 إن محصلة التوافقات الوطنية الواسعة لحين إجراء الانتخابات الواجبة يجب أن تكون رافعة   الوحدة الوطنية الشاملة في إطار منظمة التحرير وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني على أسس ديمقراطية وتشاركية هو ما يرتقي لإعادة بناء نظامنا السياسي على أسس وطنية ديمقراطية، وإلى مستوى تضحيات شعبنا وصموده الهائل، الأمر الذي يجب أن يفرز وبالضرورة إنهاء لحالة الانقسام جذريا، والوصول إلى اتفاق حول حكومة فلسطينية تجسد طموحات شعبنا وإرادته، الأمر الذي لم يعالجه للأسف لقاء موسكو رغم إيجابيته من حيث انعقاد اللقاء والتوافق على وحدانية تمثيل منظمة التحرير بما له علاقة بالوصول إلى تقدم في مسار الوحدة الوطنية الواسعة خيارنا الوحيد في مواجهة التحديات المصيرية التي تواجه شعبنا ويحقق  مشاركة الكل الفلسطيني بما في ذلك المستقلين وتحديدا قطاع الشباب منهم بالحكومة الجديدة التي يتوجب التوافق الوطني حولها حتى تحظى بأوسع حاضنة شعبية وبقاعدة حماية لتتمكن من تأدية واجباتها. حتى أن مفهوم الفصائل والتي بالرغم من دورها التاريخي الكفاحي في زمن الثورة قد استنفذ جوانب من دورها  وخصوصيتها رغم مسيرة نضالاتها وتضحياتها خاصة مع مرحلة بناء مؤسسات الدولة التي يستوجب فيها الآن الحفاظ على الإرث الوطني الكفاحي لشعبنا الذي تمثل عبر تراث وتاريخ الثورة ومنظمة التحرير وأذرعها بما في ذلك القيادة الوطنية الموحدة زمن الانتفاضة الكبرى، كما وطنية ومهنية وكفاءات مواقع مؤسساتنا أولاً، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في سياساتٍ قديمة بما فيها سياسات التوظيف بالخدمة المدنية، والعودة للشعب مصدر السلطات من أجل الوصول إلى رؤية واضحة تحدد البرنامج والأدوات لمواجهة التحديات القائمة لعل ذلك يساهم في حماية شعبنا والوصول على أقل تقدير إلى بر الأمان، فالمسألة لا تتعلق بتغير أشخاص الحكومة أو بمواقع مختلفة في ظل الحفاظ على تفاصيل نظام سياسي لا يحكمه برلمان مُشرع ومُراقب يحدد الرؤية والبرامج أو وجود أحزاب سياسية تعكس مساهمتها بالتنوع الفكري والسياسي في مجتمعنا، وتغيب عنه استخدام الأدوات العلمية والدراسات المتعلقة بالمتغيرات ومختلف أشكال التطور المحلي والإقليمي والدولي وحتى المتغيرات الاقتصادية الاجتماعية والديمغرافية، واَليات انتخاب مؤسساته وعلى رأسها المجلس الوطني الفلسطيني.

Loading...