إعادة إعمار السلطة

          

واضح أن الولايات المتحدة الاميركية تنبهت بعد السابع من أكتوبر إلى خطورة هشاشة السلطة على استقرار المنطقة، فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل فغياب السلطة في قطاع غزة وضعفها في الضفة هو أحد أبرز الأسباب بل السبب الوحيد لما حدث في غزة، فقد جاءت حماس على فراغ غيابها وطورت قدراتها العسكرية التي وصلت ذروتها في الحدث الكبير في السابع من أكتوبر.

الحدث أعاد الإنتباه لما يحدث في الضفة، وما يمكن أن يحدث في ظل استمرار تردي السلطة التي حاولت الولايات المتحدة إنعاشها العام السابق، من خلال قمتي العقبة وشرم الشيخ، لكن الإستطلاعات التي جرت في الاسابيع الأخيرة باتت تعكس مزاجاً شعبياً عاماً ضد السلطة، بل وناقماً عليها حد الرغبة بإنهائها، فقد كان أداء السلطة في سنواتها الأخيرة يستدعي غضباً لم يكن يتطلب الكثير من الجهد لقياسه.

لم يعد النقاش محصوراً في واشنطن بل أن تل أبيب التي لديها رؤية معارضة لإمتداد السلطة لغزة بعد الحرب، كرؤية بات البيت الأبيض يضعها على السكة تمهيداً لتحريكها، فالولايات المتحدة تريد إعادة صناعة سلطة ببعد أمني قادر على مواجهة التحديات، وما رشح من لقاءات أميركية مع الرئيس الفلسطيني أنها تركز على مكافحة الفساد الذي ينتشر في السلطة ويتسبب بتعريتها أمام الرأي العام، وكذلك تمكين المجتمع المدني وتقليص صلاحيات الرئيس عباس، بتعيين نائب له وتفويض رئيس الوزراء صلاحيات كانت تتركز في يد الرئيس.

وفي إطار النقاش كان ميخائيل ميلشتاين رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز موشيه ديان، الأكثر وضوحاً في توصيف حالة السلطة بالقول "إن السلطة الفلسطينية نظام استبدادي قمعي فاسد ومكروه من شعبه".

استطلاعات الرأي عكست ذلك خلال الشهور والسنوات الماضية، حيث فقدت السلطة قدرتها على التحكم بمناطق في الضفة الغربية، وكانت الحالات المسلحة التي ظهرت في شمالها تعكس هذا التراجع في مكانتها.

تقع السلطة وسط معادلة شديدة التعقيد في ظل تغول إسرائيل على الأرض، وعربدة المستوطنين واجتياح الجيش الدائم، واعتقالٍ وقتلٍ أصبح فعلاً يومياً دائماً، ما يضع حالة الحياد التي تتخذها السلطة في مكانة معاكسة للمزاج الشعبي. صحيح أن هذا يضعف حضورها لكن الفساد والتفرد وغياب التجديد، كان أكثر ما تسبب بهذا التآكل في شعبيتها.

لم تأخذ السلطة بكل النداءات التي صدرت عن الفلسطينيين بالحاجة الملحة لإصلاحها كمطلب داخلي قبل أن يكون مطلباً أميركياً. بات الفلسطينيون يشعرون بإزدراء اهتمامهم وتجاهل السلطة للحاجات الطبيعية للإصلاح وبناء نظام سياسي مقنع، وترسخت هذه القناعات بعد إلغاء الإنتخابات العام الماضي، بعد أن كادت تنجح لاول مرة منذ الصدام المسلح بين حركتي فتح وحماس.

إسرائيل تراقب الحركة الأميركية، وقد رفضت عودة السلطة لغزة، وتتحضر لإدارة حرب طويلة تجعل من عودة السلطة مسألة مستحيلة. ولكن النقاش العام في إسرائيل قد لا يستطيع الصمود كثيراً أمام الرغبة والبرنامج الأميركي، لذا تشارك بعض النخب الفكرية رؤيتها لسلطة يتم إعمارها. سلطة بالشكل الإسرائيلي، تكون معارضة لأيّة قوة مسلحة وتعمل على تفكيكها، وتعمل على تنقية المناهج الدراسية من معارضة إسرائيل، وتضمن عدم تحويل الأموال للشهداء والجرحى، ووقف شكاوى من السلطة ضد إسرائيل في المحافل الدولية.

إذاً باتت السلطة أمام استحقاق حاولت تجاهله والتهرب منه طويلا للبقاء بشكلها الحالي، دون أي تغيير بغض النظر عن كل المطالبات الشعبية والتدخلات العربية، وبات واضحاً أن قدرتها على الصمود أمام رياح التغيير العاصفة مشكوكٌ فيها، فالزلزال الذي أحدثة السابع من أكتوبر لا بد وأن يطال بهزاته الإرتدادية تكلس السلطة، ولا بد أن يعيد للواجهة ما كان خارج الإهتمامات، وخصوصاً أن الولايات المتحدة كانت تطمئن للسياسة الإسرائيلية بإبقاء حماس وإضعاف السلطة، تهرباً من أية حركة سياسية. لكنها اكتشفت أن عليها أن ترسم بنفسها مصالحها في المنطقة وأول تلك المصالح هي سلطة أقل فساداً وأقل تفرداً.

بإمكان السلطة أن تقطع الطريق على ما يتم رسمه في غرف السياسة ودوائرالأمن ومراكز الدراسات، وهي تراقب بسلبية مطلقة، فأي حكم للفلسطيني هو حاجة فلسطينية أولاً وعاشراً، وبالتالي على قيادة السلطة أن تعقد اجتماعاً للفصائل الفلسطينية، تعلن فيه قرارها بإجراء الإنتخابات فور انتهاء الحرب، كمدخل كفيلٍ بإجراء كل الإصلاحات المطلوبة، أما غير ذلك سنكون في أفضل الأحوال أمام سلطة أمنية على النمط الأميركي، وفي أسوأها على النمط الإسرائيلي، وتلك مأساة فلسطينية لا تستطيع السلطة بهشاشتها الحالية الوقوف أمامها ومعارضتها.

Loading...