بقلم: أيمن جزيني
يقول الشاعر والكاتب الفلسطيني الراحل خيري منصور. وهو ثالث ثلاثة أصدقاء هم نبيل عمرو ومحمود درويش ومنصور نفسه. يقول في مقدّمة كتاب “محمود درويش في حكايات شخصية”، إنّ درويش “عرف نمطاً ممّا سمّاه الصداقة من طرف واحد، لأنّ هناك من ادّعوا صداقته حيّاً وميتاً”. في هذا الكتاب شهادة حيّة من صديق جمعته بدرويش صداقة من طرفين، فماذا في جعبته؟
حاضر أبداً محمود درويش. لا يغيب عن مجلّة أو جريدة أو موقع أو شاشة، ولا عن دار نشر. لا يغيب كذلك عن جلسة أدبية أو ثقافية ولا عن مجلس فكر أو ثقافة أو سياسة أو أدب. بمرور سريع على وسائل التواصل الاجتماعي، تلتقي به مرّات ومرّات، على هيئة حروف وكلمات.
هو حاضر أبداً على ألسنة الناس على اختلاف ميولهم وطبقاتهم ومستوياتهم الفكرية والثقافية والعلمية. حاضر ما حضرت القضية الفلسطينية. فهو شاعر فلسطين وقضيّتها وشعبها وتاريخها حدّ التماهي وحدّ الحلول. فكيف يكون حضوره بأقلام المقرّبين منه والأصدقاء؟
صديقان وكتاب يجمعمها
أن يكتب السياسي والدبلوماسي والمناضل الفلسطيني نبيل عمرو عن محمود درويش، هو أن تقترب من الشاعر الراحل حتى تحرقك التفاصيل الصغيرة، وتضيء على عالمه الشعري والحياتيّ.
اللقاءات بين الصديقين، على ما يقول عمرو، “استغرقت آلاف الساعات”. و”كان حديث الشعر فيها هو الأقلّ”، وغالباً كانت تنعقد مساءً حول طاولة نرد. طاولة نرد تحيلنا إلى قصيدة محمود درويش الأثيرة “لاعب نرد” التي يعدّها بعض النقّاد أعلى قمّة شعرية وصل إليها درويش. وأن يكتب عمرو عن درويش بعد سنوات من غيابه، هو أن يستمتع القرّاء بتحفة من تحف أدب الصداقة والوفاء. الأدب النادر الذي قلّما نجده في أيّامنا هذه، أيّام مدّعي الصداقة.
في 145 صفحةً من القطع الوسط، يضمّها كتاب صادر عن مؤسّسة محمود درويش، يسرد لنا نبيل عمرو قصصاً وحكايات وتفاصيل حميميةً عن الشاعر ويوميّاته. منذ لحظات استيقاظه الأولى صباحاً حتى مغيب شمسه ذات يوم من عام 2008. ومن علاقته بالقهوة التي ينقل عنه عمرو قوله إنّها “تعادل رائحتها طعمها”، وبالمال الذي يقول إنّه كان يملك منه ما يكفيه وما يوفّر له دفع ما عليه دفعه. من مسكن وملبس وصولاً إلى السفر وتناول الطعام “في مطاعم جيّدة ونظيفة”.
يورد عمرو حواراً دار بينه وبين أحد الأثرياء في باريس بدعوة من الأخير وفي بيته. ومنها سؤال درويش للثريّ عن سبب سعيه إلى جمع المزيد من المال. وإعجابه بجواب الأخير والمقارنة التي أجراها بين سعيه إلى المزيد من المال الذي يملك منه الكثير. وسعي درويش إلى المزيد من الشعر وله فيه دواوين كثيرة!
يكشف عمرو أنّ درويش تزوّج مرّتين، وكان في كلّ مرّة يفتّش عن ذريعة للطلاق. أمّا لماذا؟ فهل غير الحرّية جواب وسبب وذريعة؟ كان يريد التحليق في فضاء الحياة الرحب بلا قيود. ثمّ “مَن يطيق العيش مع امرأة تحت سقف واحد، ويؤدّي الحبّ وطقوسه كإجراء وظيفي؟”.
والرجل، أي درويش كما ينقل عنه عمرو، الذي يكره الزواج لأنّه السبب الوحيد للطلاق، كان يحبّ الأعراس. شريطة أن لا يكون هو العريس. وكان يبتهج بزواج سبقته قصّة حبّ, إلّا أنّ له تحذيراً دائماً غالباً ما كان يردّده: “لقد تسرّعت يا صديقي في إطفاء النار اللذيذة”.
حيفا والقاهرة وبيروت ودمشق…
في الكتاب أخبار كثيرة عن أدقّ التفاصيل في حياة محمود درويش، وعلاقته بالمدن:
– من حيفا، حيث “اصطدمت بمعنى حياة المدينة، وشروط الحياة المدينية. وبالتالي، أنجزت الكثير من التحرّر الشخصي، والتفتّح على مظاهر الحياة الحديثة”.
– إلى القاهرة “المدينة الأكبر والأعظم، التي رأيتها لأوّل مرّة. رأيت فيها مدينة تتكلّم العربية، وأسماء شوارعها بالعربية. وهذا ما فتنني. ورأيتُ، طبعاً، آثارها المعمارية والتاريخية وحيويّتها. وفوق هذا بالنسبة لي الانخراط المبكّر، وأنا شابّ صغير دون الثلاثين، في علاقة صداقة وزمالة مع كبار أدباء وكتّاب مصر، الذين قرأتهم في طفولتي، ووجدتهم أمامي”. ويسترسل درويش في الحديث عن القاهرة فيضيف: “كنتُ في مبنى جريدة الأهرام في غرفة واحدة، مع العملاقين نجيب محفوظ ويوسف إدريس وابنة الشاطئ. كانت لدينا مكاتب في غرفة واحدة. وإلى يميننا، والباب مفتوح دائماً، الأستاذ الكبير توفيق الحكيم، وفي طابق تحتنا لويس عوض، والعديد من الكتّاب المصريين”.
– أمّا بيروت فكان درويش يرى أنّها “أجمل مدينة في العالم. ففي بيروت التقاء الشرق والغرب. تستطيع أن تكون غريباً في بيروت. ولكنّ تعدّدية بيروت لم تحمِها من الحرب الأهلية. أنا أرى في بيروت ما أريد أن أرى: أرى فيها ثقافة الديمقراطية التي حمتها من الانهيار. أرى فيها الانسجام بين التعدّدية والحصرية، الحرّية الصحافية وثراء الصحافي، وأجمل صناعة كتاب في العالم العربي. أرى فيها التقاء البحر بالجبل، والقدرة على الانبعاث من رماد الحرب والدمار، وتعايش الطوائف. يعني: أرى في بيروت ما أريد أن أراه في مستقبل العالم العربي. التعايش والتعدّدية ضمن إطار يُتّفق عليه دون استحواذ طرف على آخر”.
– في دمشق يقول درويش حرفيّاً: “مع محبّتي لكلّ القرّاء، وجمهور الشعر في المدن العربية، إلا أنّ العلاقة الخاصة جدّاً، الكيمياء المشتركة لم أجدها في مكان كما وجدتها في دمشق. سحر لقائي مع جمهور الشعر في دمشق. صحيح، قرأت في ملاعب هناك، ولكن ليس هذا هو المهمّ. عند الدمشقيين حساسيّة للشعر، وكأنّ الواحد منهم يحمل مفتاحاً لسرّ القصيدة. يلامسون العالم الداخلي للقصيدة بسرعة شديدة”.
عبد الصبور وعبد الحليم وعبد الوهاب…
ومن المدن إلى الأصدقاء والفنّانين والشعراء يستفيض عمرو في الكتابة عن علاقة محمود درويش بهم:
– من سليمان النجاب “المثقّف الكبير” الذي كان يبدو شبيهاً بجدّه، وكان يساعد محمود على تأليف طرائف لطيفة وذكيّة. ويزوره “محمّلاً بهدايا الفلاحين المدهشة: الحليب واللبن الرائب والزبدة والجبنة”. فيثير فيه الحنين إلى حياة القرية التي تأسّس وعيه فيها. وإلى مجالس الفلّاحين التي كان جدّه يحرص على أن يصطحبه إليها.
– مروراً بصلاح عبد الصبور الذي “ربطتني به علاقة يومية”.
– وأحمد عبد المعطي حجازي وعبد الرحمن الأبنودي “المحيّر”.
– ثمّ الموسيقار محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ الذي كان درويش منحازاً إليه ضدّ فريد الأطرش.
– وصولاً إلى إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد اللذين “كان محمود يراهما نجمين ساطعين في سماء العالم”.
يقدّم لنا عمرو في تلك الحكايات الشخصية، تلك القامة السامقة في أدبنا، بكلمات لا تقلّ شاعريةً عن كلمات محمود درويش. ويتجلّى ذلك في الصور التي يرسمها لنا عمرو عن صديقه. والجمل الشعرية البليغة التي يصفه بها: “كان محمود مثل جملة عصبية مكشوفة”. أو الصور الشعرية التي يرسمها بالكلمات مثل مشهد محمود درويش وهو خارج متعباً من الجلسة التي تناولا فيها مرضه. وقرأ حينها عمرو على ظهر درويش قصيدته الشهيرة “أحنّ إلى خبز أمّي”.
مواضيع كثيرة وتفاصيل دقيقة يوردها الأديب والصديق الصدوق نبيل عمرو، لا تتّسع هذه العجالة لذكرها كلّها. وإنّما للمرور على هذه الصداقة النادرة ليفوح طيبها على المارّين أو العابرين في كلام ليس عابراً أبداً.
عن موقع أساس