ننشر اعتباراً من اليوم أجزاء من كتاب “محمود درويش في حكايات شخصية”، للمناضل والسياسي والكاتب الفلسطيني نبيل عمرو، حيث يتناول في الحلقة الأولى علاقة درويش بالساسة والسياسيين وأبرزهم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي كان يعدّ درويش “صديقاً شخصياً” له. كما تتناول هذه الحلقة علاقة درويش بجمال عبد الناصر والناصرية ومحمد حسنين هيكل، وصولاً إلى بيروت والحرب الأهلية فيها حيث “أوشك أن يحترف السياسة”.
كان ياسر عرفات يدرك بوعي وحسّ القائد المستحوذ أنّ سطوع نجم الشاعر محمود درويش في عهده يضيف له وللظاهرة الفلسطينية بعداً مهمّاً. وإيقاعاً شديد التأثير في تكوين صورة مشرقة لشعب وثورة وقضية.
حين كان يطول غياب محمود، كان عرفات يسأل عنه، ويطلب من مساعديه وصله به عبر الهاتف، وبحميمية بالغة يبادره قائلاً:
– وحشتني.
ويكرّرها غالباً أكثر من عشر مرّات.
– “إنت فين.. زمان ما شفتك تعال يا خويا، احميني من الشعراء، ومجالس التحشيش الفكري، احميني من فلان وفلانة.. هلكوني وأحرجوني أمام الزعماء العرب”.
كانت المكالمة تطول، فعرفات يستمتع بالحديث مع الشاعر الأكبر. أمّا حين يكون محمود حيث يكون عرفات في غزة أو رام الله، فكان الرئيس يحرص على أن يتناول معه الغداء والعشاء.
– “ولولا اني يا خويا بعرف انك بتتأخّر في النوم لأفطرنا معاً”.
كان محمود رافعاً الكلفة تماماً مع عرفات. كان يبدي إعجابه ببعض اللقطات التي يستخلصها من أحاديثه التلفزيونية والصحافية. إلا أنّه كان يفصح عن نقد قاسٍ حيال لقطات لم تكن تعجبه. كان عرفات يسعد بالإشادة، إلا أنّه حين كان يسمع نقد الشاعر كان يقول:
– “طيّب يا خويا.. أنا منين لي لغة ونباهة محمود درويش”.
– أنت الخير والبركة أيّها القائد العامّ.
– وأنت يا محمود الشاعر العامّ.
وينتهي اللقاء بعناق تتخلّله ضحكات جذلة.
إلا أنّ عرفات كان يؤمن بالقدرات السياسية لمحمود درويش. ولا يتجلّى ذلك فقط من خلال إصراره على أن يكون عضواً في اللجنة التنفيذية. وهو ما فُسّر في حينه على أنّ عرفات أراد تعليق وردة ثقافية وإبداعية على صدر القيادة الفلسطينية وصدره شخصياً. وإنّما من خلال الأدوار الحسّاسة التي كُلّف بها. فهو مثلاً كان من ضمن المجموعة الضيّقة جداً، التي تمّ إطلاعها على أدقّ تفاصيل المحادثات السرّية في أوسلو. كان بحكم الموقع والثقة يشارك في جلسات القرار. إلا أنّ ذلك لم يمنعه من تقديم تحذيرات ذكية، خصوصاً حين يتّصل الأمر بما يكمن وراء العروض الإسرائيلية. إذ كان محمود الأعرف من بين الجميع في كيفية تفكير الإسرائيليين. وكانت لغته العبرية الناضجة قد وفّرت له متابعة دقيقة وواعية لكلّ ما يجري في إسرائيل.
كما كان محمود درويش واحداً من فريق ضيّق تابع مسألة الاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير، من خلال دور حسّاس أدّاه مع الوسطاء الأوروبيين.
غير أنّ الأدوار التي لعبها من موقعه الرسمي، لم تكن لتؤثّر في العمق على قناعاته الخاصة. كان يدرك أهمّية الاعتراف الأميركي مثلاً بمنظمة التحرير والشعب الفلسطيني. إلا أنّه كان في غاية التحفّظ على الصيغ السياسية التي كان يجري الحديث عنها لحلول محتملة للقضية الفلسطينية. لم يكن ممكناً مواصلة التعايش المتعب وغالباً المؤلم بين المثقّف والسياسي. فالمثقّف هو “إنسان الضمير والقناعات العميقة، وأمّا السياسي فهو رجل الحسابات والاتّفاقات والتسويات”.
حين قدّم محمود استقالته من اللجنة التنفيذية وتزامن ذلك مع إبرام اتفاق أوسلو، لم يسمح لخصوم أوسلو باستغلال استقالته كما لو أنّها تمرّد أو ثورة على ما تمّ. أمّا عرفات الذي أقلقته الاستقالة وأعيته الحيلة في ثني الشاعر عنها، فقال:
– إنّني أوافق بشرط.
فقال محمود: “اشرط فرغبتك أوامر”.
قال عرفات: “أن تعدني بالتفرّغ للشعر”.
كان محمود ذكيّاً ولمّاحاً بما يكفي لفهم ما بين أحرف شرط عرفات. فكم سيكون صعباً تسويق أوسلو لو شنّ محمود حرباً عليها، فقال للرئيس:
– “مع أنّ لي تحفّظات كثيرة على أوسلو إلا أنّني سأحاول الاستفادة منها. فأنا سأخطّط للسكن في رام الله. على الأقلّ سأكون قريباً من أمّي في الجليل”.
– “ومنّي كذلك”، قال عرفات وقد غمرت إشارات الاطمئنان والرضى قسمات وجهه.
بوّابة مصر.. محمد حسنين هيكل
اسم أثّر جوهرياً في حياة محمود الشخصية والإبداعية والسياسية. فهذا الرجل الذي احتفلنا لحظة كتابة هذه السطور بأعوامه التي تقترب من التسعين. وهو لا يزال في حيوية الشباب، وتألّق السياسي، وجدارة التربّع على عرش الصحافة العربية. مع حضور قويّ على مستوى العالم.
هذا الرجل هو من فتح باب جمال عبد الناصر للشاعر الشابّ الواعد. فهيكل صاحب موهبة في التقاط الكفاءات النادرة وتوفير فرص إبداعها في مجال الأدب والثقافة والفنّ والسياسة. ناهيك عن الصحافة. لقد رحّب عبد الناصر بحضور محمود درويش إلى مصر متجاوزاً حرج أنّه قادم من إسرائيل. كانت هزيمة حزيران ما تزال تلقي بظلالها الكئيبة على زعيم الأمّة وعلى بلده الكبير وشعبه المنهك.
كانت ظاهرة عبد الناصر قد فتحت ذراعيها للطائر الذي أفقدته الاعتقالات والاستدعاءات والإقامات الجبرية أجنحته وحرمته من الفضاء الرحب الذي لا حياة لشاعر من دونه. كان قرار محمود بمغادرة الجليل من أصعب القرارات التي اضطرّ لاتّخاذها. كان دافع البحث عن الفضاء الرحب والأجنحة قويّاً ومنطقياً. إلا أنّ مغادرة الوطن دون عودة ، أوجعت روح الشاعر وفتحت عليه باباً من النقد واللوم وحتى الإدانة، وهو ما جعل الأمر بمنزلة عقدة سوف يكابد آلامها وحرجها إلى أمد بعيد. كثيرون كتبوا عن إثم مغادرة الوطن. إلا أنّ الشابّ الذي احتضنه جمال عبد الناصر وفتحت له عاصمة العروبة أبوابها تجاوز العقدة، ونسي الأمر كلّه، حين ملأ الفضاء الرحب بأحلى القصائد وأعذب الأغنيات.
يقول محمود: “بحثت عن الفضاء والأجنحة في موسكو، إلا أنّ أحلامي حول عاصمة المستقبل صُدمت بمدينة متجهّمة موحشة. وبحثت عن فضائي وأجنحتي في باريس، وقد أتعستني وكادت تقتلني نظرات رجل البوليس، وهو يقلّب صفحات وثيقة السفر الإسرائيلية التي فيها كلّ البيانات عنّي إلا ما يحتاج إليه الشرطي للسماح لي بدخول المدينة الساحرة.
لقد وجد فراغاً بجانب كلمة الجنسية. إذاً ما هي جنسية حامل الوثيقة هذا؟ هل ما بين يدَي الشرطي جواز مزوّر؟ أم لسفرة واحدة؟ أم يُمنح لحالات اضطرارية؟
لكي لا يُجهد الشرطي نفسه في الإجابة عن الأسئلة التي أثارها خلوّ الجواز من ذكر الجنسيّة آثر إعادة الشابّ من حيث أتى، أي على نفس الطائرة. كان محمود آنذاك مصنّفاً من ذلك النوع من البشر في إسرائيل الذي يوصف بساكن الأمر الواقع، وليس بالمواطن الذي يحمل جنسية بلد.
ظلّ محمود عارفاً بجميل جمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل مدى الحياة.
الحقبة القاهريّة في حياة محمود حيث أمضى سنتين، كانت بمنزلة المحطة الأولى في حياته الجديدة، أو في فضائه الجديد الذي صار بمساحة الكون كلّه. كان هيكل قد وضعه عضواً أساسيّاً في نادي الظواهر الخالدة، وهو لم يبلغ بعد الثلاثين من عمره.
لقد توغّل آنذاك في عمق الحياة الأدبية. إلا أنّه ظلّ على ضفاف الحياة السياسية. لكنّ الاندماج في الاثنين معاً، كان في بيروت التي ما إن دخلها في عام 73 حتى وجد مدينة أحلامه على شفير حرب أهلية طاحنة اندلعت وهو لم يتعرّف عليها بما يكفي.
كان تورّط الفلسطينيين في الحرب الداخلية اللبنانية، دافعاً موضوعياً لأن يتورّط هو فيها. رغماً عنه لم يكن قادراً على النأي بنفسه عن حرب كان متأكّداً من أنّها من النوع الذي لا لزوم له. كان يراقب تنامي النفوذ الفلسطيني المسلّح والسلطوي في لبنان. وكان يقرأ لوم أصدقائه اللبنانيين للظاهرة الفلسطينية على ما تفعل، في نظراتهم وتعليقاتهم.
كان يشعر بحرج شديد عندما يروي أحدهم واقعة تعرّضه للتفتيش على حاجز فلسطيني مسلّح. لقد رفض بشدّة أن يؤسّسوا تحت أيّ سبب دولة خاصة بهم داخل الدولة اللبنانية. بل إنّه كان متأكّداً من أنّ هذه المجازفة ستؤدّي إلى خلاصات مأساوية. إلا أنّه ابن فلسطين أوّلاً وأخيراً. وفي وضع مثل الحرب المركّبة المحتدمة في لبنان كلّه، ماذا بوسع شاعر أو قصيدة أو كاتب أن يفعلوا؟ كان طوفان الحرب قد غمره وغمر كلّ المبدعين من أمثاله في كلّ المجالات. لم يخلُ أسبوع دون أن يفقد محمود واحداً من معارفه أو أحبّائه.
في بيروت فقد ماجد أبو شرار الذي كان مُتَكَأً معنوياً وعاطفياً له. وعلى الرغم من جمال وروعة ما كتب في بيروت أثناء الحرب، إلّا أنّ الواقع النازف في تلك المدينة الساحرة جعله يعترف في سيرة حياته بأنّ أجمل مدينة أحبّها كانت المكان الذي لم يبدع فيه شعرياً بما يرضيه. على الرغم من تل الزعتر وقصائد أخرى من بيروت وعنها، وبفعل الانغماس في الحياة السياسية الفلسطينية، أوشك محمود أن يحترف السياسة. وذلك حين عُيّن رئيساً لمركز الأبحاث الفلسطيني الذي كان إلى جانب تخصّصه الأكاديمي في البحوث والدراسات، يشبه قاعدة كفاحية لمنظمة التحرير. ثمّ انتقل منه إلى رئاسة تحرير “شؤون فلسطينية” التي هي المجلّة الأهمّ في تلك الحقبة.
وتعمّق أكثر في الحياة السياسية وسمّي عضواً في المجلس الوطني (برلمان المنفى) وعضواً في المجلس المركزي ذي السمة السياسية الخالصة. وصار اسمه منذ ذلك الوقت يتردّد كمرشّح دائم لعضوية اللجنة التنفيذية، وكذلك كمعتذر دائم عن القبول بها إلى أنّ تطوّر الأمر فيما بعد، ليجد محمود نفسه في قلب المطبخ السياسي بحكم الموقع والمكانة. وعلى مضض قبل عضوية اللجنة التنفيذية، لكنّه أصرّ على أن يكون معه شفيق الحوت. وحين سئل: لماذا كلّ هذا الإصرار على شفيق؟ قال: كي أجد مثقّفاً أتحدّث معه!!!
عن موقع أساس