بقلم: محمد كريشان
طوال حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، أول رئيس لتونس المستقلة (1957-1987) لم يكن هناك من مرشح يمكن له منافسة «المجاهد الأكبر» وحين تجرأ أحدهم مرة وفعلها اتهموه بالجنون، قبل أن تُـلغى الانتخابات أصلا ويعلن بورقيبة عام 1975 «رئيسا مدى الحياة». لم يكن الموت هو من أزاحه في النهاية من الرئاسة بل وزيره الأول زين العابدين بن علي ليبقى في الحكم 23 عاما (1987 ـ 2011) اختار خلالها بعض المرشحين «الكومبارس» لجعل الانتخابات الرئاسية «تعددية وتنافسية».
لم يعرف التونسيون للانتخابات الرئاسية نكهة إلا بعد ثورتهم، ولهذا كانت انتخابات 2014 ساحة لتنافس شيّق بين أكثر من 20 مرشحا آلت فيه الدورة الثانية إلى جولة بين الراحل الباجي قايد السبسي والمنصف المرزوقي (الذي كان حينها رئيسا مؤقتا) ليؤول قصب السباق إلى الأول لنشهد أول تداول سلمي ديمقراطي للرئاسة في تاريخ تونس.
وحين توفي قايد السبسي عام 2019، جرت انتخابات سابقة لأوانها تقدم إليها كثيرون ليفوز بها في النهاية قيس سعيد في الدور الثاني ضد نبيل القروي بأغلبية كبيرة.
وها هي تونس تستعد لانتخابات رئاسية في سبتمبر/ أيلول أو أكتوبر/تشرين الأول المقبلين، ولكن شتان بين ما سبق وبين ما تنتظره البلاد إذ تبدو المؤشرات الحالية مقلقة للغاية، فضلا عن أنه لا أحد يعرف تاريخا رسميا بعينه لهذه الانتخابات ولا أحد يعرف كذلك شروط الترشح لأن هناك رجلا واحدا هو من سيحدد كل ذلك اسمه قيس سعيد.
لم يكتف سعيد بما يردده دائما، ودون كلل، عن «الخونة» و«العملاء» و«الفاسدين» «الذين يسعون لتفجير الدولة من الداخل» والمقصود بهم طبعا كل معارضيه، بل إنه صرح مرة بأنه ليس مستعدا لتسليم الرئاسة إلى «غير الوطنيين» وذهب أكثر مؤخرا بأن شرع في بث أجواء حقيقية من التخويف والترهيب ضد كل من يمكن أن تسول له نفسه التقدم للانتخابات الرئاسية، فقد حفل بيان رئاسي صادر قبل أيام بكل هذه المعاني في سابقة خطيرة للغاية، إذ عوضا أن يكون الموعد «عرسا ديمقراطيا» تتنافس فيه البرامج والحلول والمقترحات لإخراج تونس من مأزقها السياسي والاقتصادي تحول الحدث إلى «رهاب» حقيقي.
الرئيس التونسي وخلال استقباله الأربعاء الماضي وزير داخليته ومدير الحرس الوطني أكد على «أنه لا تسامح مع من يرتمي في أحضان الخارج استعدادا للانتخابات ويتمسح كل يوم على أعتاب مقرات الدوائر الأجنبية (..) والمترشح المتمسح على الأعتاب لا تعنيه إلا الجهة التي وعدته بالدعم ولا شأن له إطلاقا لا بمصلحة الشعب التونسي ولا بتونس، هذا فضلا على أن الذي يبحث على الدعم والمساندة من الدوائر الاستعمارية تحتقره نفس هذه الدوائر».
ومضى البيان الرئاسي، المتشنج للغاية كالرئيس عندما يتحدث، إلى أبعد من هذه الاتهامات الخطيرة المبهمة، فأضاف أن الرئيس دعا «إلى الملاحقة القضائية لعدد من عملاء الحركة الصهيونية وتطبيق الأحكام المتعلقة بالاعتداءات على أمن الدولة الخارجي التي نصت عليها أحكام المجلة الجزائية (..) وأن الذي اعترف على رؤوس الملأ بدعم حملته الانتخابية سنة 2019 من الحركة الصهيونية صار اليوم معارضا في الخارج ويتقاضى إلى حد اليوم من نفس هذه الحركة. وأردف بالقول إن «من بين الطرق التي لجأوا إليها هذه الأيام (ودائما دون أن نعرف من هم هؤلاء بالضبط وعلى أي أساس توجه لهم اتهامات خطيرة كهذه) وسائل إعلام مأجورة يتم الاستعداد لبعثها أو برامج تلفزية يتم الترتيب لبثها أو صفحات في وسائل التواصل الاجتماعي معلومة مواقعها».
البيان، الحافل بالويل والثبور لكل هؤلاء، يأتي في حين أن لا أحد إلى حد الآن أعلن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية، بما في ذلك سعيد نفسه، سوى سيدة شابة زعيمة حزب جديد فأغلب المتنافسين المحتملين، وليسوا الأكيدين، هم إما في السجون أو المنافي أو تحت التشهير المستمر. أما من ترددت أسماؤهم، بشكل أو بآخر، على أنهم قد يكونون من المترشحين، فإنهم سيفكرون الآن ألف مرة قبل الاقدام على خطوة كهذه، لأنها باتت اليوم عمليا «شبهة» اعتزام ارتكاب «جرم خطير».
وحين نعلم يقينا أن قيس سعيد، الذي كتب الدستور وحده وأعاد تشكيل كل المشهد السياسي على هواه، غير عابئ بعزوف الناس عن كل استشارة أو انتخابات دعا إليها، هو من سيحدد ـ منفردا بالتأكيد ـ الشروط الواجب توفرها في كل متقدم إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإننا سنجد حتما شروطا لا تنطبق على أحد، أو عليه تحديدا دون غيره.
يجري كل ذلك والغموض يكتنف قدرة المعارضة المنهكة والمشتتة على التوافق على شخصية وازنة قادرة على الإطاحة بقيس سعيد، الذي يبدو قلقا للغاية مع أن الاستطلاعات (إنْ صدقت) تعطيه الأفضلية، ثم إن لا شيء سيحول دون مضيه منفردا إلى هذه الانتخابات، غير عابئ حتى بنسبة المشاركة فيها، فسيجد لكل ذلك تفسيرا في حينه، فلا تقلقوا!!
عن القدس العربي