لعلّ أنسب توصيف لحرب الإبادة التي تشنهّا إسرائيل ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزة، وللفلسفة التي تقف خلفها، منذ 5 أشهر، يتمثل بالنظرية التي طرحها البروفسور مارتين فان-كرفيلد، وهو أستاذ الدراسات العسكرية في كلية التاريخ في الجامعة العبرية، وأحد أهم المتخصّصين الإسرائيليين في الاستراتيجية العسكرية.
يلخّص فان كرفيلد أطروحته، التي اقترحها في ذروة المواجهات الفلسطينيةـ الإسرائيلية إبان الانتفاضة الثانية، مطالباً إسرائيل بتبنّيها، بالآتي: "على مدار سنوات طويلة دبّرنا أمورنا مع العرب... خارج دولة اسرائيل... فكل عشر سنوات قاموا بافتعال مشكلة، ما كنّا نأخذ مطرقتنا الكبيرة ونضربهم بعنف، وهو ما أحدث بعد ذلك عشر سنوات من الهدوء، حتى انّهم في النهاية يئسوا من الأمر".
وفي ما يخصّ التعامل مع الفلسطينيين، يقول: "لا بدّ من فصل تام بيننا وبينهم، لا جسور مفتوحة ولا علاقات اقتصادية ولا سياسية. فصل مطلق على مدار جيل أو جيلين، أو وفقاً لما يحتاجه الأمر... نتحدث عن سور كسور برلين، بل وإن كان بالإمكان فليكن أكبر، وعالٍ جداً حتى أنّ الطيور لا يمكنها أن تطير من فوقه... ثمة ضرورة لإعادة ميزان الردع، بيننا... أنا في مثل هذه الحالة سأستعمل المدفعية وليس الطيران، لأنني أريد أن أنظر إليهم في عيونهم، إذ لا فائدة من هذه الحملة إن لم تبرهن بأعمالك أنك يمكن أن تعمل كل شيء... علينا أن نضربهم بقسوة بكل ما بوسعنا حتى لا نعود الى ذلك، وحتى لا يهاجموننا من الخلف عند خروجنا... نضرب بكل قوة وقسوة بحيث لا نحتاج الى ضربة ثانية، إذ يمكن أن نقتل منهم 5000 أو 10000، وإن لم يكن هذا كافياً عندها علينا أن نقتل أكثر. من الأفضل جريمة واحدة وثقيلة نخرج بعدها ونغلق الأبواب من خلفنا." ("إمتساع حضيرة" 8/3/2002).
بيد إنّ ذلك لا يحيل توحّش إسرائيل في حربها ضدّ غزة إلى ردّة فعل آنية، أو طارئة، أولًا، لأنّ حاجتها لعدو خارجي هو جزء من مكوّنها الهوياتي، باعتباره من أهم عوامل شدّ العصب لدى الإسرائيليين، إذ يتعلّق الأمر بدولة ومجتمع تأسسا بطريقة مختلفة، من دون علاقة بالمكان والزمان والناس في هذه المنطقة. وثانياً، لأنّ تلك الدولة تأسست منذ البداية على فكرة السور والقلعة، وتستبطن عقلية "الغيتو"، المحاط بالأغيار، للدفاع عن ذاتها، ضدّ ما تعتبره أخطاراً خارجية دائمة تهدّد وجودها.
على هذا الأساس، فقد شهدنا أنّ إسرائيل، بعد العملية الهجومية التي تعرّضت لها يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 على أيدي مقاتلي "حماس"، نظرت بعين الخطورة إلى تلك العملية، إذ شبّهتها بالهولوكست، وبأنّها محاولة لتدمير إسرائيل، مع وصم "حماس" بالإرهاب (حتى منظمة التحرير تُعتبر منظمة إرهابية في الولايات المتحدة منذ العام 1987). وبناءً على ما تقدّم، فقد اعتبرت إسرائيل أنّها إزاء التهديد الحاصل تمتلك حق الدفاع عن النفس، بل والحق الحصري بذلك (بحسب تعبير لجدعون ليفي)، واعتبار الفلسطينيين بمثابة "حيوانات بشرية"، بحسب تعبير وزير الدفاع يوآف غالانت، والتعامل مع فلسطينيي غزة كلهم، أطفالاً وشيوخاً ونساء ومدنيين عزّل، كأهداف طبيعية لها، من حقها فعل أي شيء بهم، وبغزة، بما في ذلك قطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء والطاقة عنهم، وحرمانهم من بيوتهم، بل وحتى نقلهم إلى الخارج، أي إزاحتهم بالقوة المباشرة، أو بقوة الأمر الواقع (طوعاً) من غزة، إلى خارجها، مع تقديم ما حصل في القطاع كدرس للفلسطينيين من النهر إلى البحر؛ وحتى للبنان أيضاً.
في هذا الإطار يمكن فهم إصرار إسرائيل على رفض أي اتفاق يتضمّن وقفاً كاملاً ونهائياً لحربها الوحشية ضدّ غزة، وأيضاً، رفضها انسحاب جيشها من القطاع، وتلويحها بسيناريوات عدة تتعلق بما ترتبه في اليوم التالي لغزة. أي إنّها بذريعة محاولتها إنهاء وجود حركة "حماس" في المشهد الفلسطيني، تقوم من ناحية فعلية بتقويض حياة أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، وتحويله إلى مكان غير صالح للعيش، مع سعيها فرض ترتيبات سياسية وأمنية في القطاع ترسّخ سيطرتها المباشرة عليه، لسنوات مقبلة.
قد يفيد التذكير هنا أنّ ثمة إجماعاً إسرائيلياً على تلك التوجّهات، بغض النظر عن التفاوتات الثانوية، والمناكفات الشخصية والحزبية، كما تمثل في التصويت في الكنيست مؤخّراً، إذ أنّ 99 من 120 عضواً في الكنيست أيّدوا توجّهات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في حين أنّ 11 عضو كنيست مجرد تغيّبوا عن الجلسة، وفقط أتت المعارضة من القوائم العربية (10 أعضاء كنيست).
مثلاً، حتى يوسي بيلين المحسوب على المعتدلين، وأحد أقطاب اتفاق أوسلو، يقول: "محظور أن يدفع أصحاب القرار لارتكاب خطأ استراتيجي جسيم. اقتراح إنهاء الحرب الذي جاء من جهة "حماس" لتحرير المخطوفين على مراحل، وابقائها في الحكم بغزة، وضمانات لسلامة قادة المنظمة، هو دعوة لكتاب استسلام من إسرائيل... واجب حكومة إسرائيل، التي تركت آلاف المواطنين الإسرائيليين لبراثن "حماس" هو أن تخرج عن طورها، وتبذل كل جهد مستطاع لتحرير المخطوفين، في ظل المخاطرة بحياة الساعين لإنقاذهم؛ لكن إنهاء الحرب بينما لا تزال "حماس" في الحكم في غزة– هو مطلب تهكمي من شأنه أن يضع استمرار وجود الدولة أمام علامة استفهام." ("إسرائيل اليوم. 27/1/2024).
وفي الحقيقة، فإنّ هذا الإجماع هو الذي يشجع نتنياهو على الاستمرار في حربه ضدّ غزة، ومناكفة الإدارة الأميركية، وطرح خطته للبقاء في غزة لعشر سنوات مقبلة، بدعوى تطويعها (بحسب تايمز اوف إسرائيل، 6/3/2024)، للسيطرة عليها بشكل مباشر وغير مباشر، بترتيبات عسكرية ومدنية، لقطع أي طريق على إقامة دولة فلسطينية، تحت شعار: لا "فتحستان" ولا "حماستان"، بغض النظر عمّا تروّجه بعض الأطراف الدولية والإقليمية، وضمنها القيادة الفلسطينية في رام الله.
هذا ما يحاوله نتنياهو، والإجماع الإسرائيلي من ورائه، مستنداً إلى قدرة إسرائيل على السيطرة، وتوفر معطيات دولية وإقليمية مؤاتية لها، بغض النظر عن البيانات. أما الطرف الفلسطيني، مع الانقسام الحاصل، فلا يبدو حتى الآن، وفي المدى المنظور، أنّ لديه الإمكانات والقدرات اللازمة لصدّ نتنياهو، وتفويت استهدافاته.