المصالح الأمريكية تفرض تنوع نماذج التدخل والتغيير

مع الأزمة الأوكرانية، دخلت الولايات المتحدة مرحلة من التصعيد الشديد لسياستها العدوانية القائمة على التطويق والمواجهة الحاسمة مع روسيا، وهي مرحلة لم يسبق لها مثيل منذ سنوات عديدة، يضاف إلى ذلك ما يجري اليوم من عدوان إبادة بحق شعبنا والذي شكلت الإدارة الأمريكية الداعم بل والشريك الأساسي له منذ بداياته، بغض النظر عن ما اَلت إليه بعض الخلافات الجارية الآن بين حكومة الاحتلال القائمة والبيت الأبيض والتي لا تعبر عن أي نوع من الخلافات الاستراتيجية بخصوص التحالف الاستراتيجي بينهما، لكن لربما حول الرؤية الأمريكية لما يسمى بالشرق الأوسط الجديد الذي تحدثتُ عنه في مقالات سابقة .

فقد أخفى بايدن في خطابه أمس حول حالة الاتحاد أمام الكونغرس شراكة الولايات المتحدة الكاملة فيما جرى ويجري من حرب الإبادة ضد شعبنا. لقد تباكى على ضحايا شعبنا وتحدث عن إسقاط المساعدات الإنسانية من الجو، والتي أصبحت برأيي تشكل عبئاً جديداً غير كريماً على شعبنا هنالك، كما تحدث عن رصيف الميناء المؤقت. الغريب في الأمر أن الإدارة الأمريكية استطاعت إقناع دولة الاحتلال بذلك في حين لم تستطيع لإقناعها بفتح المعابر البرية لإدخال المساعدات! وأعتقد أن ذلك يتم كي يشكل الضوء الأخضر لاستمرار العدوان البربري على مدينة رفح والذي قد ينتج عنه التهجير القصري.

هم لا يريدون الضغط على حكومة إسرائيل، بل الضغط على شعبنا الفلسطيني، ويعملون على الإسقاط من الجو لأغراض إعلامية كما حديثهم عن الضحايا المدنيين في غزة في محاولة لتحقيق توازن بين الأطراف المختلفة بحزبه الديمقراطي أولاً، نتيجة ارتفاع وتيرة ضغط المعارضين لسياسات إسرائيل الحالية لمحاولة إعادة استقطابهم في حملته الانتخابية التي برأيي قد بدأها امس أمام منافسه ترامب من جهة، ومن جهة أخرى لمحاولة امتصاص الانتقادات الدولية الواسعة ومن ضمنها لعدد من الدول الأوروبية التي باتت محرجة أخلاقياً أمام ما يجري من جرائم. لكن ذلك الأداء الإعلامي لا يمكن أن يقترن بإجراءات محاسبة أو عقاب بحق إسرائيل من أجل وقف فظائعها.

لذا فقد جرى الحديث دون أن تمارس إدارة بايدن ضغوطات جادة على حليفها إسرائيل لوقف فوري للعدوان أمام اتساع رقعة الغضب بالشارع الأمريكي على استمرار ذلك.

إن دوافع بايدن الذي جاهر بصهيونيته هي سياسية غير أخلاقية بالمطلق حول ما يجري بغزة. خاصة مع استمرار تزويد إسرائيل بأسلحة الدمار وحمايتها بالمؤسسات الدولية وهو أمر يجمع عليه الحزبين بالولايات المتحدة حتى الآن، وهو ما يشكل مساً بهيبة الإدارة الأمريكية طالما لا تتحقق وعود أو تنبؤات بايدن حول الصفقة والهدن المؤقتة التي أطلقها وهو يتناول البوظة. فهي عاجزة عن تقييد نتنياهو رغم استقبالها لبني غانتس في محاولة للتأثير على التوجهات الإسرائيلية من جهة خدمتها للسياسات الخارجية الأمريكية في منطقتنا ليس إلا، حيث غانتس أقرب للرؤية الأمريكية حول المنطقة واتجاهات تطورها.

أمّا حديث بايدن بحسرة عن استهداف أوكرانيا من جانب روسيا، وهو أمر اعتبره جزء من تهديد الديمقراطية بالغرب، فيبدو أنه قد تناسى الدور الذي قامت به المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون مع جماعة بانديرا النازية في تنفيذ الانقلاب بحق الديمقراطية الشعبية والنظام المنتخب عام 2014. بانديرا الذي كرمه زيلينسكي رغم موته عام 1956 وهو مجرم الحرب النازي الأوكراني، الذي ارتكب مجازر بحق 130 ألف شخص معظمهم من البولنديين والأوكرانيين خلال الحرب العالمية الثانية.

وهؤلاء النازيين الجدد في أوكرانيا وعدد من دول أوروبا الشرقية سابقاً وحتى الغربية تتنامى قوتهم ويحظون بدعم من الإدارة الأمريكية وإسرائيل في آن واحد رغم أن مفارقة معاداتهم  للسامية التي تشكل ذريعة لإسرائيل في استخدامها أدوات الدولة لقمع معارضيها في أوروبا يكشف زيف الأخلاقيات التي تدّعيها الحركة الصهيونية في محاربة معاداة السامية والتي هي بالأساس ظاهرة أوروبية لها مصادرها الدينية والاجتماعية الاقتصادية، تستغلها أوروبا فيما تعتقد بأنه يحررها من عقدة الذنب وإزاحتها علينا نحن بالشرق العربي وكفلسطينين.

فالمبادئ والأخلاقيات لم تكن هي يوماً المعايير المقررة بالسياسات الخارجية. إن سياسات بايدن وحتى كل الإدارات الأمريكية لا تعتمد على ما يسميه البعض ازدواجية المعايير، وإنما المصالح هي التي تشكل المعيار الوحيد والتعبير الحقيقي عن مواقف الدول.

وتفترض هذه السياسة سيطرة وثيقة على "حلفاء الولايات المتحدة" من خلال فرض وقائع تفرض عليهم التعاطي معها وإذا أمكن، السيطرة على الطيف السياسي بأكمله في تلك الدول الحليفة لخدمة العناصر الأساسية لسياسة الولايات المتحدة الخارجية، كما يجري الآن مع المكونات السياسية في دولة الاحتلال، ومحاولات السيطرة من جهة أخرى على مكونات دول المنطقة ونظامنا السياسي الفلسطيني من خلال حديثها الفظ والمستمر عن ضرورات التجديد بالسلطة الوطنية وتشكيل حكومة تكنوقراط بعيدة عن القوى السياسية، وهو أمر فلسطيني خالص لا شأن لهم به. وقد جرى ذلك سابقاً في عدد من الدول العربية التي خضعت للشروط الأمريكية والتي تم ربطها بالبنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، وكلاهما مؤسسات مالية تخضع للسيطرة الأمريكية بأبعادها السياسية والنتيجة هي ما وصلت له اليوم من أشكال التبعية نتيجة القروض المالية باعتبارها دول ريعية.

إن الهدف هو السيطرة بشكل مباشر قدر الإمكان على كل من السلطات الحاكمة وقوى "المعارضة" إلى حد دَفعِهم إلى تبني سياسات ضارة بشكل واضح بشعوبهم، كما يتطلب ذلك الاستيلاء على الدولة العميقة في تلك الدول.

ونتذكر هنا طبيعة العلاقة التي ربطت الإدارة الأمريكية ومخابراتها مع جماعة الإخوان المسلمين والتي كانت تشكل طرفاً معارضاً لعدد من الأنظمة العربية التي نفسها ارتبطت بمصالح الولايات المتحدة ونفذت ما سمي بالربيع العربي للإطاحة بمفهوم الدولة الوطنية على حساب تفوق إسرائيل بالمنطقة.

ورغم أن الولايات المتحدة التي تعلن عن عدم رغبتها بالتدخل العسكري بعد انسحابها من أفغانستان، إلا أنها تحتفظ اليوم بأكثر من 850 قاعدة عسكرية حول العالم، بما فيها الشرق الأوسط الذي يشكل هدفاً بقدر ما يدل ذلك على هشاشة أمنية وسياسية تعيشها كثير من دوله، استراتيجيا لإنشاء القواعد العسكرية لما ذكرته آنفا.

فهي تحتفظ بهذه القواعد وتوسعها بعد أن نفذت انقلابات مختلفة الشكل في كافة القارات وارتكبت المجازر وحروب الإبادة بهدف بسط سياساتها في زمن الحرب الباردة. إنها تعود اليوم بأساليب اقتصادية وناعمة دون إغفال الجانب العسكري الذي ما زالت الولايات المتحدة تعتمده بهدف الإبقاء على هيمنتها في ظل النظام الدولي الحالي والذي أصبح يتجه للتغيير.

إن إنشاء جيش من "القادة الشباب" الواعدين الذين يتم تشكيلهم في الجامعات النخبوية الأمريكية والشركات الأمريكية متعددة الجنسيات أو مراكز الفكر المختلفة أو حتى المنظمات غير الحكومية، هو أحد الأسلحة الناعمة الرئيسية في هذا المخطط.

وغني عن القول أن نقل "مادة التجديد" هذه يتم بتواطؤ مع قطاعات كبيرة من القوى المالية والاقتصادية المحلية في تلك الدول التي تتم في بعض الأحيان تحت مسمى حكومة التكنوقراط وهذا ما جرى في فرنسا واليونان وقبرص مؤخراً لضمان سيطرة القوى المالية الأمريكية وموظفيها من السياسيين الذي يأتون من كبرى الشركات المالية الأمريكية وبنوك مثل جولدن ساكس وروتشيلد وأخرى مثيلة، لتسلم زمام الحكم السياسي في هذه الدول وغيرها، فالآن وكما قال لي مرة أحد الساسة القدماء باليونان، اليوم لا يوجد بأوروبا زعماء سياسيين، هنالك موظفين شركات كبار....

وعادة ما تتناقض التصريحات الأمريكية بشأن الموقف من المكونات السياسية لتلك الدول المستهدفة، ففي وقت تعلن الإدارة الأمريكية أو الكونغرس عن إجراءات تتعلق إما بالسلطات الحاكمة أو بقوى المعارضة وتُخضعها لأنظمة العقوبات، فإنها تجري معها حوارات تعتمد سياسة العصا والجزرة لمحاولات اخضاعها لتنفيذ سياساتها ورؤيتها الاستراتيجية في مناطق عدة بالعالم بما فيها منطقتنا بهدف تمكنها من الطرفين بالحكم والمعارضة.

Loading...