لا شيء أغضب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في علاقته مع الإدارة الأميركية في الآونة الأخيرة أكثر من دعوة بيني غانتس، الوزير في «الكابينيت الحربي» ورئيس حزب «المعسكر الرسمي»، لزيارة واشنطن، واللقاء مع نائبة الرئيس كامالا هاريس، ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان. صحيح أن الرئيس جو بايدن وجّه انتقادات علنية لنتنياهو، آخرها تحذيره له في لقاء صحافي بأنه سيفقد تأييد غالبية العالم إن بقي متمسكاً بحلفائه في الحكومة مثل إيتمار بن غفير، وأنه انتقده في مرات عديدة وانتقد حكومته التي اعتبرها الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، بل طالبه بتغييرها، ولكن أن تدعو الإدارة الأميركية غانتس دون التنسيق معه، ومن خلف ظهره، فهذا تدهور كبير وخطير في العلاقة بين نتنياهو وبايدن.
في الواقع، يعتبر الرئيس بايدن أن سياسة نتنياهو في الحرب على غزة تؤثر عليه سلباً، وقد تقوّض فرصه في الانتخاب لولاية ثانية في تشرين الثاني القادم، والمؤشر الأبرز هو قيام أكثر من مائة ألف ناخب من الحزب الديمقراطي بالامتناع عن التصويت له في الانتخابات التمهيدية للحزب في ولاية ميشيغان. ويشعر بايدن أنه دون وقف إطلاق النار، والذهاب لخطوات سياسية تحدث اختراقاً في ملف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، لن يكون بمقدوره الفوز. وهو الآن متخلف عن الرئيس السابق دونالد ترامب في استطلاعات الرأي. ونتنياهو بالمقابل يريد إطالة أمد الحرب لأطول فترة ممكنة، ويريد استغلال الموقف الأميركي الداعم لأهداف الحرب الإسرائيلية والرافض لوقف إطلاق النار قبل تحقيقها إلى أقصى حد ممكن. على الرغم من أن الإدارة الأميركية تأمل أنه من خلال الهدنة الإنسانية المترتبة على صفقة تحرير الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين، يمكن خلق آليات لوقف إطلاق نار، والبدء بعملية سياسية تقوم على رؤية واسعة لمرحلة ما بعد الحرب.
بايدن الذي قدم لإسرائيل مساعدات لم يسبق لها مثيل، وفاقت الدعم العسكري الذي قدم لها في حرب أكتوبر العام 1973، يشعر بالخذلان من عدم تقدير نتنياهو لهذه المساعدات، بل وقام بتحدي بايدن وردّ عليه، بخصوص إمكانية خسارة تأييد العالم، بأنه يحظى بدعم 82% من الأميركيين مقابل دعمهم لحركة «حماس». طبعاً هذا القول مضلل؛ لأنه يتعلق بسؤال المفاضلة بين إسرائيل و»حماس»، ولا يتعلق بدعم أو رفض سياسة حكومة إسرائيل. والخلافات بين الرجلين بدأت قبل السابع من أكتوبر، ومنذ أن بدأت حملة المعارضة الإسرائيلية للإصلاحات التي أراد نتنياهو إحداثها في الجهاز القضائي، والتي اعتبرت انقلاباً على الديمقراطية الإسرائيلية. عندها هاجم بايدن حكومة نتنياهو، ووصفها بالمتطرفة، وطالبه بوقف التعديلات القضائية في حينه. وهذا ما اعتبره نتنياهو تدخلاً في شؤون إسرائيل باعتبارها دولة ذات سيادة.
الأمور وصلت إلى مستوى عدم وجود قاعدة للحوار بين الإدارة الأميركية وبين نتنياهو وأعضاء حكومته المتطرفين، ولهذا قامت عملياً بخطوتين تعبران عن فقد الثقة به. الأولى إسقاط مساعدات إنسانية من الجو في بعض مناطق قطاع غزة. وهذه تشكل سابقة في تاريخ الولايات المتحدة التي تسقط فيها مساعدات في مناطق تحت سيطرة دولة صديقة، ما يعني أنها ترى أن حكومة نتنياهو قد فشلت في تلبية احتياجات السكان الفلسطينيين الإنسانية، وفي مهمتها وواجبها كقوة محتلة وفق القانون الدولي. والثانية دعوة غانتس لزيارة واشنطن واللقاء مع كبار المسؤولين في الإدارة هناك. والأكثر سوءاً بالنسبة لنتنياهو نوع المحادثات التي تجريها واشنطن مع غانتس، والتي تتركز على اليوم التالي للحرب. مع العلم أن بايدن قد حثّ نتنياهو على وضع خطة عملية ومنطقية لما بعد الحرب، وردّ الأخير بخطته التي رفضتها واشنطن وكافة العواصم الدولية، والتي تقوم على استمرار السيطرة الأمنية على القطاع، ورفض عودة السلطة الفلسطينية لتولي إدارة غزة، وبدلاً منها الاعتماد على إدارة محلية من شخصيات غزية مقبولة إسرائيلياً ولا تنتمي لأيّ من «حماس» أو «فتح».
وكون الحديث مع غانتس ينصب على مسألة التسوية السياسية، فهذا يعني أن إدارة بايدن لا ترى في نتنياهو شريكاً في مرحلة ما بعد الحرب، بل ترى أن غانتس ربما يكون الشريك المثالي. فعدا أن هذه الخطوة قد مثلت تجاوزاً لنتنياهو وقرصة أذن، فهي في واقع الحال تمثل تمهيداً لتغيير كبير في إسرائيل. وكأن بايدن يقول للإسرائيليين: إن أردتم الحفاظ على تحالف ودعم واشنطن اللامحدود، عليكم البحث عن شخص آخر غير نتنياهو ليقودكم. وأنه يرى في غانتس شخصاً مناسباً.
صحيح أن الإسرائيليين لا يذهبون للانتخابات في ظل الحرب، لكنّ هناك أصواتاً كثيرة ووازنة تطالب بانتخابات عاجلة، وبإسقاط حكومة نتنياهو. وفي استطلاعات الرأي العام في إسرائيل هناك أغلبية كبيرة تتجاوز 60% مع استبدال نتنياهو، لكنها منقسمة إلى نصفين: نصف مع استبداله الآن وفوراً، والنصف الآخر بعد أن تتوقف الحرب. وعليه فدعوة غانتس تعتبر مؤشراً جلياً على رغبة واشنطن في البحث عن بديل أكثر واقعية لنتنياهو. وهذا بالضبط ما يفهمه نتنياهو ويجعله حانقاً.