ربما يوافقني من يعرفه، رجل غزير الانتاج فيّاض معلومة يتحدث بما له به من علم، هو مؤسسة في رجل ولا يجانب الحقيقة قولي هذا، له من الإصدارات ما يربو على الخمسة عشر إصداراً تُرجم بعضها للغة الإنجليزية، رصد فلسطين أرضًا وشعبًا.. تاريخ نضال وشهداء.
الباحث الأستاذ نواف الزرو من باستيلات الاحتلال شاباً في بداية تشكل الوعي في حواري مدينته مدينة السلام معتقلاً ليمضي إحدى عشرة سنة من سنوات القهر ليتحرر ضمن صفقة تبادل في العام 1979 وقرار الاحتلال بإبعاده عن فلسطينه منذ ما ينوف عن الأربعين سنة وما زال قيد الإبعاد لم يرقَّن.
في طيات واحدة من موسوعاته وثق مدينة الخليل المحتلة تحت عنوان "الخليل ملحمة في موسوعة النضال الفلسطيني" الصادرة عن دار مجدلاوي للنشر والتوزيع 2019، موثقاً ومؤرخاً معالمها ومعاركها، قادتها وشهداءها وأبطالها، بل؛ كان مسك ختام هذه الملحمة قوائم بأسماء وتواريخ ميلاد واستشهاد أكثر من تسعمائة شهيداً رووا بقاني دمائهم أرضها.
في ثمانمائة وأربع وستين صفحة كتب الزرو الخليلَ أحداثاً موثقة بالصور وأسماءَ معمدة بالفعل الثوري المقاوم. وثق انتهاكات جنود الاحتلال ومستوطنيه، إذ لا يغيب عن بال العارف ولا يغفل عما يقترفه الاحتلال وعلى مدار الساعة من مصادرة وتدمير لمدينة من أهم مدن فلسطين التاريخية ولا نغالي إذا ما قلنا أن ما تتعرض له مدينة الخليل إن لم يكن مثل، بل يفوق ما تتعرض له مدينة القدس.
تتضمن الموسوعة سبعة أبواب مقسمة لعدة فصول يتناول كل باب معلومات تحكي عن مدينة الخليل الكنعانية منذ النشأة الضاربة في عمق التاريخ وحتى آخر شهدائها الذين ارتقوا على مدى سنوات الاحتلال حتى حينه، فهذه الأرض معطاءة وما زالت ومنذ ما يربو على القرن تحتضن الشهيد تلو الشهيد.
لعله من الصعوبة بمكان استعراض موسوعة بهذا الحجم زاخرة بتاريخ مدينة بماضيها وحاضرها وحتى استشراف لمستقبلها، مدينة تمثل قداسة وأهمية واستهداف ممنهج من قبل الاحتلال، في عرض موجز، لكنها دعوة للاطلاع لمن شاء أن يعرف ولكل مهتم سواء كان أكاديميًا أم نحوه.
لم يألُ الأستاذ نواف الزرو جهداً في البحث ونبش الذاكرة ليوثق الخليل بكليتها أحياءَ ومعالمَ وقرى، مساجدها ومقاماتها وزواياها وأديرتها، دور العلم والمدارس. وثق ما توالى على المدينة من أحداث وتعاقب، فيما خصص البابين الثالث والرابع لما اقترفته وتقترفه سلطات الاحتلال انتهاكاً لقدسية الأمكنة مصادرة وتدميراً وتغييراً في البنيتين العمرانية والسكانية واستهدافاً للإنسان ترويعاً وقتلاً في مدينة خليل الرحمن وقراها.
لعل المنقبة التي تسجل للباحث والجهد العظيم الذي أنتج هذا العمل الرائع فهو علاوة على دقته في الوصف وجذريته في البحث والعرض والتحليل عمل على استخلاص العبر ووضع استراتيجيات قابلة للتحقيق لمواجهة تغوُّل الاحتلال الصهيوني في المدينة.
ولأن الثقافة تعتبر وجوباً مكوناً أساسياً للهوية الوطنية فقد خاض الباحث في موضوع المعركة الثقافية المحتدمة وصراعنا مع المحتل حول الهوية الوطنية للمكان، إذ تناول في الفصل الثالث من الباب الثاني للموسوعة ـ الملحمة، تناول مدينة الخليل والمعركة التي تخوضها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم ـ اليونيسكو والتي لا يقل حضورها وفعلها ونتائجها ـ كما يقول ـ عن أي معركة أو جبهة في مواجهة المشروع الصهيوني الذي يهدف إلى محو الذاكرة والتراث الفلسطيني بهدف تزوير التاريخ وفرض الرواية الصهيونية المزيفة. هذه المعركة والجبهة المفتوحة أدت بسلطات الاحتلال لمجابهة كل قرارات اليونيسكو المتعلقة بالحق الفلسطيني وإعلانها عن نية الكيان الإسرائيلي الانسحاب من هذه المنظمة على اعتبار ـ وهذا من وجهة نظر صهيونية ـ أن قرارات اليونيسكو تعتبر ضربة استراتيجية وتاريخية لليهود. وقد تساوقت الولايات المتحدة الأمريكية مع موقف الكيان واعلنت انسحابها من المنظمة بذريعة أن المنظمة وبعد قبولها بفلسطين دولة دائمة العضوية فيها في العام 2011 بأنها ـ أي اليونيسكو تبنت عدة قرارات أثارت استنكار إسرائيل واتهمتها بمعاداتها بعد الإعلان الصادر عام 2017 والذي اعتمدت فيه مدينة الخليل منطقة محمية تابعة للتراث العالمي ولكونها موقعاً ذا أهمية عالمية استثنائية في خطر.
لقد أجاد الباحث وهو المبعد منذ عقود عن فلسطين، أجاد في أن يتولى مهمة الدليل ليلج بنا إلى حواري مدينة الخليل ومعالمها ولم يغفل عن أي جزئية تتعلق بها؛ مكانتها ومكانها وناسها مؤكداً على قاعدة مفادها أن الصورة أهم وأكثر إقناعاً من مئات الكلمات. وثق الكلمة وعززها بالصورة ليفضح ممارسات الاحتلال ضد المدينة وناسها، فقد جاء الفصل الثالث من الموسوعة بعنوان صادم: "الخليل تتحول إلى أكبر معسكر احتلال في الضفة" فبحسب مكتب إعلام الأسرى، احتلت محافظة الخليل الرقم الأعلى بين محافظات الضفة الفلسطينية المحتلة في عدد حالات الاعتقال حتى العام 2018 وقد طالت كافة شرائح المجتمع الفلسطيني وحتى الأطفال منهم.
ولأن الفعل الثوري المقاوم بكافة أشكال المقاومة حق في مواجهة المحتل فقد تناول الأستاذ نواف الزرو في الفصل السادس العمليات البطولية ضد الاحتلال الصهيوني مستكملاً ما جاء في الفصلين الرابع والخامس، فمن معركة الدبويا في قلب مدينة الخليل إلى ما سبقها وما تلاها من عمليات استهدفت جنود الاحتلال وغلاة متطرفيه من المستوطنين. لقد تصدرت محافظة الخليل أحد مشاهد انتفاضة القدس وحلت كمركز للحدث فمثلت كابوساً للمحتل وعاصمة للغضب الفلسطيني.
لقد أدى الاحتكاك اليومي بين أهل الأرض المواطنين والمستوطنين الدخلاء إلى إقدام الطبيب الأمريكي المجرم باروخ غولدشتاين على ارتكاب مجزرة فجر أحد أيام الجمعة من شهر رمضان في يوم الخامس والعشرين من فبراير عام 1994 في قلب الحرم الإبراهيمي استشهد فيها ثلاثة وثلاثين شهيداً كانوا يؤدون صلاة الفجر، وكان من تداعيات هذه المجزرة أن عمدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى تقسيم الحرم وحرمان الفلسطيني من حقه في ممارسة شعائره في كامل هذا المكان المقدس.
لقد صوبت اتفاقية الخليل المبرمة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في الخامس عشر من يناير 1997 طعنة نجلاء في خاصرة بل قلب هذه المدينة بحيث شرعنت تواجد سلطات الاحتلال وجنوده ومستوطنيه فيها بناء على بنود اتفق الطرفان عليها ولم يلتزم بها الكيان الإسرائيلي.
اختتم الباحث الموسوعي موسوعة الخليل الملحمية والتي لا يتسع المقام أن تُختصر في قراءة أو مقال يضيء على كل تفاصيلها، اختتمها بمسك ختامها موثقاً أسماء شهدائها الذين مضوا على درب الفداء، درب فلسطين من مائها لمائها.