اقتحم مفهوم التسوية الحياة السياسية العربية بعد حرب 6 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973 من دون مقدمات نظرية تذكر. ولعل البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1974 (النقاط العشرة) يمثل الاستجابة السياسية الفلسطينية الأولى لنتائج تلك الحرب، بما هو أول برنامج سياسي فلسطيني يغادر الشعارات والأهداف الاستراتيجية السابقة من دون أن يصل إلى اعتراف صريح بدولة إسرائيل والقرار 242.
في هذا الإطار سادت مفاهيم مثالية حول فكرة التسوية إيجابياً وسلبياً. ومع أن النموذج المصري ذهب في تلك الفكرة إلى نهاياتها المنطقية، إلا أنها (فكرة التسوية) لم تتقدم عملياً على صعيد المسألة الفلسطينية، نظراً لجذرية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، حيث ينفي كل طرف الطرف الآخر بالمطلق، ولعدم توفر قناعة لدى الجانب الإسرائيلي بالسير نحو تسوية تاريخية، مراهناً على إمكانية فرض "تلفيق تاريخي" دون مستوى القرارين 194 و242.
إن فكرة التسوية لدى الجانب الإسرائيلي، من موقع امتلاك القوى المادية والتحالف الوطيد مع الولايات المتحدة الأميركية، تدفع بالقيادة الإسرائيلية، على المستويين السياسي والعسكري، إلى تطبيق المثل الإنكليزي القائل "خذ القياس تسع مرات قبل أن تستعمل المقص". ذلك أن التقدم نحو أي تسوية يبدو من هذا الجانب، وفي التطبيق العملي، تراجعاً عن إنجازات تحققت بفضل القوة المسكونة بالهاجسين الوجودي والأمني. أما فكرة التسوية من الجانب الفلسطيني فتبدو تراجعاً عن الحق التاريخي، لا بل خيانة في نظر العديد من الأطراف الفلسطينية والعربية، رغم تزايد القناعة يوماً بعد يوم بعدم إمكانية التحرر الشامل من النهر إلى البحر.
لعل أهم ما اعترض فكرة التسوية التاريخية بين الفلسطينيين والإسرائيليين خلال المرحلة الماضية، هو تشبُّع الرأي العام في الجانبين بأيديولوجيا وطنية تستمد زخماً وتصلباً من البعد الديني الحاضر بقوة في الجانبين. وهذا ما جعل الأمر كناية عن تقابل بين "مطلقين مقدسين"، على أرض واحدة، لا يقبل أي منهما التجزئة، وينزع تلقائياً إلى معاندة الوقائع المتعارضة مع قناعته الثابتة، مشدوداً على الدوام الى فكرة إلغاء الآخر التي كانت تظهر في منطوق الشعار أو تكمن في خلفيته. لذلك عندما أتى قائداً الفريقين (رابين وعرفات) إلى أرض التسوية (اتفاقية أوسلو) فقد جاء كل منهما محملاً بإرث ثقيل من الشكوك التاريخية المتبادلة، ومدعواً في الوقت عينه الى التجرؤ على "الثوابت" في منظومته الفكرية – السياسية – الشعبية الخاصة. إن السلام الذي أقبل عليه الرجلان إنما يقع في نقطة التعارض بين الفكرة التاريخية المرنة (لأنها تاريخية) وبين الفكرة العقائدية الثابتة (لأنها عقائدية). لذلك استحق ما أقبلا عليه اسم "سلام الشجعان".
في هذا السياق العام احتل اتفاق أوسلو موقعه المميز على خريطة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، باعتباره فاتحة مرحلة جديدة، ونقطة انطلاق لإعادة انتاج الصراع وفق مفهوم وآليات تختلف عن السابق، ولكنها لا تنقض الطموح المشروع لدى الجانبين.
عندما قال رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين، غداة تويع الاتفاق، إن المجتمع الإسرائيلي يحتاج من خمسة إلى عشرة أعوام لهضم هذا الاتفاق، كان يدرك طبيعة التحولات الضرورية ليتمكن هذا المجتمع من استيعاب المنعطف الجديد. لعله لم يكن يتوقع أن يقتل على يد مجموعة متطرفة من أبناء شعبه، بينما لم يكفّ الرئيس الراحل ياسر عرفات طيلة الوقت عن وصف ما كان يجرى بأنه سلام الشجعان، الأمر الذي يعكس وعيه العميق بالصعوبات التي تكتنف هذه المسيرة الجديدة. إن الشجاعة الكبيرة التي تحلى بها الرئيس عرفات مكنته من تحمل ما لا يطاق على المستوى السياسي والشخصي، حيث استنزف الكثير من رصيده الشعبي ورصيد حركة فتح من أجل إنجاز ما يحتاجه الشعب الفلسطيني وليس ما يرغب فيه ويتمناه.
هنا المعضلة وما زالت بين منطق يقبل بذبح الشعب من أجل الشعارات وآخر يبحث عن نظام المصلحة للناس في حاضرها ومستقبلها.
إن واقعنا الراهن في قطاع غزة والضفة الغربية يفترض بالنخب الفلسطينية نقاشاً أكثر عمقاً وجدية خاصة عندما نواجه تحدي البقاء الذي فرضه نتنياهو وتحدي خيار الدولتين الذي أطلقه الرئيس الاميركي.