الراديو

 

كان لأبي جار طيب في سوق اللبن في الخليل، يجلس غالبا أمام محله، وقد وضع راديو من نوع سانيو، يستمع غالباً إلى الأخبار. أو إلى خطبة الزعيم ناصر. حيث سيكون ذلك أمراً يحدث صمتاً على طول السوق القديم ليستمع الجميع حتى المارة يمشون وقد أصاخوا السمع.

أبو عوض صاحب الراديو. كان يطلب مني أحياناً الذهاب لشراء الحمص والفول من محل قريب. كنت أقوم له بهذا عن طيب خاطر، فهو جارنا الذي يجد وقتا في بعض الأحيان لسؤالي عن أحوالي وعن المدرسة.

كم كنت أحب لو كان لدى أبي مثل ذاك الراديو. لذا قمت يوما بالطلب من جارنا أبو عوض أن يعطيني الراديو.

تفاجأ الرجل وسألني وقد نظر ناحية أبي لماذا تريده يا محمد؟

أريد أن أسمع الموسيقى.

استغرب قليلاً وأراد أن يلبي لي طلبي وطلب بعد أن أعطاني الراديو وسط نظرات الدهشة من أبي أن يعيد له الراديو في اليوم التالي.

وضعت حزام الراديو الجلدي على كتفي وذهبت من فوري إلى البيت وكأنني أحمل كنزا.

الليلة سأسمع ما أريد من أغاني وأنا تحت غطاء النوم لوحدي، قلت في نفسي، فلقد كان ذلك أحد أحلامي الصغيرة.

استمعت ما استطعت في تلك الليلة حتى تأخر الوقت. لتنهرني أمي طالبة إغلاق الراديو والنوم كما إخوتي الذين كانوا قد ناموا قبل ذلك بوقت طويل.

في اليوم التالي ذهبت إلى أبي عصراً بعد المدرسة، وكان قد أعاد الراديو لجارنا الطيب أبو عوض.

الآن أريد واحداً لنفسي. طلبت منه أن يشتري لي نفس الراديو. أريد أن أسمع. أريد أن أضع حزام الراديو على كتفي. راق لي ذلك.

لم يقبل أبي بذلك.. فلقد اعتبره طلباً غير قابل للتحقيق.

غادرت غاضباً إلى البيت. تشنجت روحي، ولا أريد الآن شيئاً سوى ذاك الراديو.

بكيت وصرخت. وأمي تهدئني وقد أشفقت علي لمعرفتها عنادي عندما أريد شيئاً بهذا الالحاح وهي العارفة بظروف أبي.

بعد كثير من البكاء والعياط والصراخ صمت مرة واحدة ومددت يدي إلى أسفل بطني أتحسس ما شعرت به كشيء تمزق، طلبت أمي من أحد اخوتي مناداة أبي الذي جاء من (دكانه) مسرعاً...وقد فهم أن ما أصابني هو فتق يستدعي الذهاب إلى المستشفى.

حملني على ظهره لمئات الأمتار حتى وصل إلى سيارة أجرة في طرف البلدة القديمه ذات الأزقة الضيقه والتي لا تدخلها السيارات.

هناك في المستشفى كان المشهد طريفاً، فلقد سألوا أبي وهم يفحصوني عن سبب ما جرى.

كان محرجاً وهو يرد بأنني أريد راديو لنفسي.

ابتسم الطبيب والممرضات ناظرين إلي يسألونني بمودة، إن كنت ما أزال أريد ذلك الراديو.

بتصميم قلت لهم نعم.

صرت الخبر الشائع في المستشفى.

هناك ولد أصابه الفتاق لأنه يريد راديو. 

جاءني بعدها إلى السرير الذي وضعوني به بقية طاقم المستشفى، ينظرون إلي فضولا ويسألوني ما خطر لهم من أسئلة وهم يبتسمون.

في تلك الأثناء كان قد عاد أبي إلى المستشفى وفي يده ذاك الراديو (صندوق العجائب). قدمه إلي مبتسماً وناظراً إلى شقائي من طلبي هذا بحب.

نفس نوع الراديو الذي كان لدى الجار أبو عوض. جديد، لم أعرف كيف ومن أين كان قد أحضره وقد صار الوقت ليلاً.

تركني بعد أن ابلغوه بأن يأتي في الغد عصراً لأخذي إلى البيت بعد إجراء عملية جراحية لي تعالج الفتق الذي نالني.

غادر أبي المكان بعد أن قبّلني طالباً مني أن لا أشغل الراديو لألّا أزعج المرضى الآخرين معي في المستشفى، والذين كانوا ينظرون ناحيتي ويبتسمون.

حلمٌ كان قد أصبح في يدي.. إنسللت تحت الغطاء وشغلت الراديو بصوت منخفض، أريد أن أسمع، وأتاكد أيضاً أنه يعمل. بعض الممرضات عدن إلى غرفتي وكأنني أصبحت فرجة لهم في تلك الليلة، طلبت مني إحداهن برفق أن أغلق الراديو وأنام. وطمأنتني أنني لن أحس بأي ألم عند إجراء عمليتي الجراحية في الصباح.

كنت قد نسيت أمر هذه العملية ذاك الراديو أمكنه أن ينسيني أي شيء.

في اليوم التالي وبعد خروجي من العملية الجراحية الناجحة كما قال لي الطبيب المشرف وهو يضحك ومعه الممرضات، كأننا في سيرك كنت فيه المهرج.

يا محمد سيأتي والدك عصراً وتروح إلى بيتك، أنت بخير.

غادر الغرفة مع طاقمه المرافق.

لا يمكن أن أنتظر حتى العصر موعد قدوم أبي لأخذي، قلت في نفسي، لكن مشكلتي الآن أن ملابسي ليست تحت يدي، فقد ألبسوني قبل العملية رداءً (روب) خاصاً بالعملية. لا أزرار له كالعباءة، ثم لا حذاء في قدمي، كنت قد غادرت البيت بالأمس حافيا على ظهر أبي.

مكثت قليلا أفكر، وضعت حزام الراديو على كتفي.. وكما أنا حافياً عبرت الردهة الطويلة.  ثم نزولاً إلى باب المستشفى المفضي إلى الشارع الذي أعرفه تماماً.

إلى البيت. كان وقت الضحى، والشوارع مليئة بالسيارات والمارة، شغلت الراديو وكان يشبه حقيبة مدرسية صغيره على جنب خاصرتي. ومشيت حذراً مع الجرح في أسفل بطني، عبرت الطريق وأغنية لفريد الأطرش تصدح، كان كل شيء طبيعي، حتى أنه لم يلتفت لي إلا القليل من الناس.

وصلت إلى البيت حيث فوجئت أمي بقدومي لوحدي. وبهذا اللباس، أجلستني شبه ممددٍ على الفراش، ولا أعلم إن كانت تضحك من إبنها أم تبكي، لكنها سألتني إن كنت أريد أن آكل شيئا. بعثت أحد إخوتي ليبلغ أبي في المحل أنني أتيت إلى البيت.

كنت قد وضعت الراديو بجانبي على الفراش سعيداً به.

الآن أسمع ما أريد وقتما أريد. سعادة غامرة تعم الغرفة حيث كنت وبعض إخوتي وأخواتي يريدون مني أن نتشارك في سماع الأغاني، كانوا في الواقع سعداء وبهم شيء من الإعجاب بمغامرتي التي ابتدأت للتو.

 

 

كلمات مفتاحية::
Loading...