حتى وجودنا في وَطننا يُريدون جَعلهُ معادٍ للسامية.

مع اتساع رقعة الغضب الشعبي العالمي وتطور المواقف الرسمية لعدد كبير من الدول بحق الجرائم المستمرة لدولة الاحتلال ومقاضاتها دولياً من أصدقاء أممين، بدأت تبرز ظواهر تدني التأييد لإسرائيل وسياساتها وتصاعد الدعوة لأشكال مقاطعتها، وهو أمر يجب استغلاله والبناء عليه.

وفي مواجهة هذا النهوض التضامني الذي لم يشهد العالم منذ 76 عاماً مثيلاً له، تلجأ الحركة الصهيونية من جديد بإثارة متلازمة الاتهامات بمعاداة السامية.

لكن معاداة السامية ظاهرة أوروبية أساساً لها مصادرها منذ العصور الوسطى بما فيها من جذور دينية، عرقية واجتماعية اقتصادية تتركز على مسائل استحواذ اليهود على المفاصل المالية والعداء الكلاسيكي المسيحي لليهود.

بعد الحرب العالمية الثانية اختفت مظاهر معاداة السامية بأوروبا حتى أثارت الحركة الصهيونية من جديد هذه المتلازمة وهي تصر الآن على استخدامها حتى أكثر مما كانت عليه سابقاً وتقمص دور الضحية التي يتوجب على العالم التعاطف معها.

بالنسبة للأوروبيين، فإن ذلك باعتقادهم يحرر أوروبا من عقدة الذنب وتبرئ بذلك نفسها من الماضي ويزيح هذه الظاهرة على حضارة أخرى هم العرب الساميون نفسهم  ومنهم بالطبع أساساً شعبنا الفلسطيني المستهدف من وراء ذلك، بهدف ضمان الأولوية الاستعمارية "لحقوق" اليهود في وطن على حسابنا نحن الفلسطينيين الذين نعيش في أرضنا ووطننا التاريخي منذ العصور القديمة.

وإسرائيل الآن تستخدم أدوات الدول الأوروبية المتاحة أمامها لقمع معارضي سياساتها في أوروبا وحتى بالولايات المتحدة بحجة أنهم معادين للسامية مما يتسبب في ملاحقتهم قضائيا وفصلهم من أعمالهم خاصة بالجامعات ومحاولات منع وقمع مظاهر التضامن مع شعبنا هذه الأيام.

وقد كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد وضعت الصهيونية التي تشكل العدو الأساس للسامية، في درجة مساواة العنصرية عام 1975 ، بغض النظر عن ما جرى لاحقا لإلغاء هذا القرار الأممي الهام عام 1991 نتيجة المتغيرات السياسية بالنظام الدولي آنذاك وتفرد أمريكا في نظام عالمي أحادي القطب. وقد نكون نحن الفلسطينيين أحد الأطراف التي ما زالت تدفع ثمناً باهظاً لتداعيات إلغاء هذا القرار حتى اليوم.

إن الحركة الصهيونية لم تتوقف من اتهام شعوب العالم بعداء اليهود تحت ما أطلقت عليه مصطلح "العداء للسامية"، وقد حرصت منذ قيام "إسرائيل" على أرض فلسطين على إلصاق هذه التهمة بالشعوب العربية وخاصة بحق شعبنا الفلسطيني، داعية اليهود العرب للهجرة إلى فلسطين بدعوى أن العرب ارتكبوا جرائم ومجازر ضد الأقلية اليهودية بالدول العربية التي في واقع الأمر قد نفذتها الحركة الصهيونية ضد اليهود هنالك.

إن اليهود الأوروبيون الذين اخترعوا مصطلح معاداة السامية لا ينتمون إلى الساميين أصلاً، بل هم أوروبيون يعيشون في أوروبا منذ عام 70 م بعد أن طرد الرومان اليهود من فلسطين وشتتوهم في كل بلاد العالم فيما بات يعرف بالشتات اليهودي العام.

إن التعريفات العملية التي قدمها بالسنوات الأخيرة  التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)  لاحقا لإعلان هذا التحالف عام 1998 تشير بوضوح بأن أي استهداف لإسرائيل أو "الادعاء بأن وجود دولة إسرائيل هو مسعى عنصري" ، يمكن أن يكون بحد ذاته عنصريا ومعادٍ للسامية، وأن "تطبيق معايير مزدوجة من خلال مطالبة إسرائيل بمسؤولية سلوك غير متوقع من أي دولة ديمقراطية أخرى" ، هو أيضا معادٍ للسامية، كما أن التشكيك بصحة روايتهم حول جرائم الهولوكوست أو عدم الموافقة على كونها احتكاراً لما تعرض له بعض اليهود فقط خلالها على يد النازيين، هو توجه معاد للسامية ايضاً.

إن تعريفات ما يسمى "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" أتت في تناقض تام ليس فقط مع القيم الديمقراطية وحرية التعبير وإنما مع حقائق التاريخ. وهي تنتهك جميع الحريات المدنية وكذلك مبادئ نشؤ الاتحاد الأوروبي نفسه الذي باتت تنتشر فيه هذه الظاهرة التي تمولها إسرائيل اليوم لملاحقة واتهام أنصار فلسطين. حيث أصبح هذا أكثر وضوحا قبل سنوات قليلة، عندما أقر البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) قانوناً يُعرف إسرائيل على أنها دولة "الشعب اليهود المنتشر في كل العالم" ، بمقابل حرمان شعبنا الفلسطيني صاحب الأرض الأصلاني من حقه في تقرير المصير.

لم نشهد قط في التاريخ السياسي الحديث مثل هذه المحاولة لتغيير وتشويه معنى الكلمات لخدمة نوايا قوة محتلة واستعمارية، حيث أن اعتماد تعريف عمل التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) ومعاداة السامية يمنح الإسرائيليين حصانة قانونية مطلقة لمواصلة انتهاكاتهم للقانون الدولي والإنساني، حيث تجاهل هذا التعريف تماماً جميع قرارات الأمم المتحدة وميثاق الأمم المتحدة، كذلك مبادئ حرية التعبير عن الرأي، وهو ما عَمل العنصريين ترامب وكوشنير سابقا على الدفع باتجاه صياغته واقراره خلال وجودهم بالإدارة الأمريكية التي قد يعودون لها في نوفمبر القادم.

 إن انتقاد السياسة الإسرائيلية المتمثلة بالإرهاب والتطهير العرقي والقتل والإبادة الجماعية والتهجير الجماعي  والفصل العنصري والتي توصف وفق القوانين الدولية بجرائم مختلفة العناوين، والتي تصدر ليس فقط عنا نحن الفلسطينيين وإنما أيضا من قبل جماعات إسرائيلية ويهودية تقدمية ومنظمات إنسانية وحقوقية حول العالم والعديد من القوى الديمقراطية، لا تشكل هجوما على اليهودية - وهي معتقد ديني نحترمه مثل أي دين آخر ولا يمكن اعتباره عملاً عنصرياً - لأننا بالمثل نُدين داعش وقوى الإسلام السياسي المتطرفة التي لا تمت للإسلام الحنيف بصلة، وكذلك القوى السياسية اليمينية المتطرفة والشعبوية الأخرى في أوروبا التي أصبحت تتحدث اليوم عن "مسيحية أوروبية" عنصرية تجاه أصول أثنية ودينية اخرى في آليات تعاملها مع القضايا العالمية الناشئة وتحديداً مع قضايا المهاجرين على أثر الحروب حول العالم، والمساهمة في تعزيز مفهوم الإسلامو فوبيا بين الشعوب الأوروبية.

والمفارقة اليوم أن اليمين المتطرف الأوروبي ومن يسمون أنفسهم بالنازيين الجدد وخاصة في ألمانيا والنمسا وأوكرانيا وهولندا والتشيك وهنغاريا واليونان والمجر وبريطانيا وغيرها من الدول والذين يحظون بمساعدة ودعم الحركة المسيحية الصهيونية بالولايات المتحدة يتخذون موقفا مؤيدا للحركة الصهيونية وتأكيد الدعم المطلق لدولة الإحتلال الإسرائيلي لصد الاتهامات عنها بالعنصرية والابرتهايد والفوقية الدينية كما والابادة الجماعية تحت ذريعة الدفاع عن النفس وحقوق اليهود المستضعفين. وهو ما قد يفسر ذلك التعاون القديم بين الصهاينة والنازيين الذي تَرسخ في عام ١٩٣٣ من خلال توقيع اتفاقية "هاعافارا" بين الحركة الصهيونية العالمية والرايخ الثالث النازي، لتسهيل هجرة اليهود الألمان والأوروبيين الاستيطانية إلى أرض فلسطين مقابل الاستحواذ على أموال الألمان اليهود الأغنياء لأن الفقراء منهم قد كانوا ضحية جرائم الهولوكست النازية، والتي يتعرض شعبنا في غزة اليوم لمثيلاتها بل ولأبشع منها وفق شهادات بعض اليهود والأوروبيين الناجين من جرائم الهولوكوست.

رغم إدانتنا نحن لهذه الجرائم عبر التاريخ، فإن الادعاء الصهيوني باحتكار السامية ومصطلح الهولوكوست إدعاء تدحضه وقائع الأحداث السياسية التي جرت خلال الحرب العالمية الثانية من انتصار الجيش الأحمر وبطولات حركات المقاومة الشعبية في أوروبا، وسقوط ضحايا بعشرات الملايين من البشر الذين استهدفهم الوحش النازي من غير اليهود خلال المجازر والهولوكوست بحق شعوب أوروبا الأخرى الغير سامية وفق مفهوم التاريخ السياسي والاجتماعي للشعوب.

إن التوجه المستمر والمتزايد للحركة الصهيونية حول العالم يهدف أولاً، تزييف وقائع التاريخ وطمس الوقائع وتجاهل الحديث عن المؤامرات الصهيونية النازية التي رافقت التعاطي مع المسألة اليهودية في أوروبا والإصرار على عدم حلها بتلك المجتمعات بهدف تسويق الفكرة المزعومة عن " الشعب اليهودي " بصبغتها القومية الدينية لخلق "الوطن القومي" لهم ، وثانيا من أجل استمرار تسويق فكرة معاداة السامية المتمثلة باضطهاد اليهود دون أتباع الديانات الأخرى كأساس لمعاداة السامية وإبقاء اليهود ضحية مستدامة أمام العالم لحصد التعاطف السياسي مع دولة الاحتلال الذي ترغب به الحركة الصهيونية على حساب استمرار اضطهاد شعبنا الفلسطيني وحقوقه الوطنية التاريخية السياسية، واقتصار ذلك على يهود العالم وفق اعتبارهم الخاطئ والمتعمد "كشعب" لا تنطبق عليه معايير الشعوب وفق المواثيق الدولية وتعريفاتها.

لقد استولى اليهود الصهيونيون الإسرائيليون على أحداث في التاريخ اليهودي، بما في ذلك أحداث الهولوكوست النازي، فاستغلوها لأغراض دعائية لتأكيد حقهم المزعوم في فلسطين التي اعتبروها أرضاً بلا شعب. وهي أرض زرعوا فيها مطالبتهم الاستعمارية قبل أحداث جريمة الهولوكوست ضد الأوروبيين على يد النازيين.

وهذا ما يتم مع العديد من القادة السياسيين اليساريين والتقدميين والقوى المتضامنة مع شعبنا الفلسطيني حول العالم، بتوجيه تهمة معاداة السامية لهم حين إعلانهم تضامنهم مع قضايا شعبنا الفلسطيني ورفضهم لسياسات إسرائيل بهدف إثارة الضجة حولهم، وهو ما يشكل جوهر استغلال متلازمة معاداة السامية، وما يشكل محور ابتزازاتهم من الغرب والأوروبيين على وجه التحديد، إلى درجة يريدون فيها اعتبار مجرد وجود شعبنا فوق أرضه عملاً معادياً للسامية بما يتوجب على الغرب الإقرار به.

هذا جانب آخر من صراعنا مع الحركة الصهيونية، والذي يتوجب برأي مواجهته وفضحه والعمل على إظهار حقائقه، من خلال التنسيق مع القوى الديمقراطية والتقدمية بأوروبا والولايات المتحدة التي أصبحت كما قلت مستهدفة إلى جانبنا وفق هذه المتلازمة العنصرية التي ستتسع في حال اخفاقنا في مواجهتها على كل المستويات ضمن دور وواجب حركتنا الوطنية وإظهار سرديتنا التاريخية مقابل مشروعهم الإحلالي الاستعماري.

Loading...