منذ قرار محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير مؤقتة في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا متهمة إسرائيل بانتهاك الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية، وصدور قرار ملزم لإسرائيل بمنع الإبادة الجماعية، وضمان توفير الخدمات الإنسانية، ومنع ومعاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية، وأنا أعكف بشكل يومي ومتواصل على توثيق انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي التي لم تتوقف في قطاع غزة، وبدأت التوثيق منذ تلك الليلة التي أعقبت قرار المحكمة الدولية، بدءاً بمجزرة الملالحة، وجورة العقاد، ومجزرة أسرة السلمي في حي الزيتون التي راح ضحيتها ستة أطفال وأب وأم، ومروراً بكل المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال وصولاً إلى قصف الذين قضوا وهم ينتظرون المساعدات الجوية أو البرية على دوار الكويت، ومن قبلها مجزرة دوار النابلسي، وصولاً إلى قصف منزل عائلة حمودة ليلة أمس في شارع الجلاء بمدينة غزة وهو منزل مكون من أربعة طوابق راح ضحية القصف 18 شهيداً ما زالوا تحت الأنقاض، فيما تم انتشال خمسة أفراد، ومجزرة النصيرات التي راح ضحيتها 36 شهيداً، وقصف منزل عائلة مطير على رؤوس أهله في النصيرات، وكذلك الزهراء، وغير ذلك كثير، وأعكف على توثيقه.
سأقدم ملفاً موثقاً إلى دولتي جنوب إفريقيا وبلجيكا دعماً للقضية العادلة التي انبرت دولة في أوروبا، وأخرى في إفريقيا، للتصدي لها من منطلقات إنسانية وأخلاقية، وذلك أقل ما يمكن أن يسهم فيه عربي مثلي يعرف جيداً طعم الحمّيض، وما تعنيه الخبّيزة البرية للفلسطيني، وما يعنيه الجوع الكافر في زمن كافر، وما يعنيه الصمود على الركام، والتحاف السماء، وما يعنيه أكل علف الحيوانات، وحبوب الطيور، والسحور على شربة ماء، والإفطار بلا إفطار.
توقفت لفترة عن الكتابة، ليس لأني يئست أو ضجرت، وليس لأن الحزن ركبني، فأنا رجل ملئ بالغضب، لم أغضب في حياتي كما أغضب هذه الأيام، كل شئ حولي يدعو إلى الغضب، ولكن غزة أيقونة سرمدية سامقة أبدية أسطورية، رسمت خارطة نضالات جديدة، وتحولات جذرية في النظرة إلى القضية الفلسطينية، وإلى الشعب الفلسطيني، وإلى الغزي والغزية، وإلى أطفال ينافسون الكبار في الصمود والتصدي، نبكي أحياناً على معاناتهم، ونحن نرى أشلاء ودموعاً، ومرة أخرى نُكبر الحِكَم التي تخرج من أفواههم، ومرة ثالثة ننصت إلى خطاب لطفلة أصيبت في بطنها، واستشهد والديها، وتقول: "اليهود مش حلوين، لأنهم بطُخّوا علينا".
ستنتهي هذه الحرب كيفما اتفق، وستخرج فيها إسرائيل مهزومة، ولن تجد على أرض غزة من يمرر لها مخططاً، ولن يجد جيشها إلا الموت، والخوف، والمرض النفسي، وستنتهي هذه الحرب والحميّض البري يحنو على بطون أهل غزة، وتصبح الخبيزة شعاراً لصبر أهل غزة، تنافس أغصان القيقيب الكندية كرمز وطني معترف به على نطاق عالمي، وربما يضاف إلى علم فلسطين يوماً نبتتي الحميض والخبيزة، ويبقى أهل غزة على أرض غزة، ويبقى بحر غزة حاضن أرضها، وأفق شعبها للحرية والانعتاق من قيد المحتل من النهر إلى البحر، تلك هي فلسطين.
ولا أحد يعرف ما يشعر به الفلسطيني، وماذا يعني أن تكون فلسطينياً، إلا الأردني، لأن قلب الأردني فلسطيني بالفطرة والدم والمصير، وسيظل الأردن حاضناً، وحامياً، وسنداً، وعوناً، ومغيثاً، وأملاً يسقط من السماء، أو قافلة عبر البر، أو جسراً بحرياً على ضفاف غزة، إلى أن ينال شعب فلسطين حقوقه في الأرض وتقرير المصير، فالمستقبل فلسطيني بامتياز، وستغدو إسرائيل تاريخاً أسود في سجل التاريخ، ولكنها ستخرج من الجغرافيا الفلسطينية لا محالة، وسيعرف العالم بأجمعه، ماذا تعني عبارة شعب الجبّارين.