بات موضوع اليوم التالي للحرب على غزة يحتل مكانةً متقدمةً جداً من البحث والنقاش ليس لدى الاحتلال فحسب بل على المستوى العربي والأمريكي والغربي، وبدأت أطراف فلسطينية تدلى بدلوها في وضع التصورات الخاصة بهذا الأمر، وإلى لحظة كتابة هذه السطور لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق على تصور معين يمكن تسميته "خطة اليوم التالي" ، والسبب وراء تأخر مثل الاتفاق على مثل هذه الخطة يعود بالدرجة الأولى إلى التناقض والتعارض بين الأطراف المتعددة التي لها مصالح بصورة أو بأخرى في واقع قطاع غزة ومستقبله، بما في ذلك الاحتلال المعني أكثر من غيره من الأطراف بتحديد شكل "اليوم التالي" للحرب من عدة زوايا سواء الزاوية الأمنية والعسكرية أو السياسية والاقتصادية، وفي الحالة الإسرائيلية يمكنني القول أن هناك ثلاثة تصورات أساسية تحمل في طياتها رؤىً متباينة ذات طابع أمني أو أيديولوجي وهذه التصورات هي:
أولا: تصور نتنياهو المستند لمقولة (لا حماستان ولا فتح ستان) والمقصود فيها أن السلطة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية غير مسموح أن يكون لها أي دور في إدارة أو حكم غزة بعد انتهاء الحرب، ويطرح نتنياهو إدارة بديلة تتكون من بعض العشائر أو الحمايل على غرار تجربة الصحوات في العراق إبان حكم نوري المالكي وتحديداً في منطقة الأنبار وقتذاك بحيث تتولى هذه العشائر إدارة القطاع أمنيا ولوجستيا وتتولى توزيع المساعدات تحت اشراف غير مباشر من جيش الاحتلال وهو تصور يواجه صعوبات جمة أبرزها صعوبة اقناع أي جهة محلية في القطاع من التعاون مع الاحتلال والتطوع لخدمة أهدافه مهما كانت خلافات هذا الطرف مع حركة حماس وتجربة حكمها في القطاع.
ثانيا: التصور الخاص بوزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت والمتمثل بالتفاهم مع السلطة الفلسطينية في رام الله من أجل أن تتولى إدارة أمور القطاع أي دخول القطاع على بوز الدبابة الإسرائيلية، وقد أخذت وسائل الاعلام الإسرائيلية بطرح اسم ماجد فرج مدير المخابرات الفلسطينية لتولى هذا الملف وهذه المهمة، وعلى الرغم من أن السلطة الفلسطينية لم تنف هذه المزاعم إلا أني أعتقد أن هناك أطرافاً داخل السلطة ليس لديها أي مانع من أن تمارس دور ما في القطاع، وفي التقدير أن احتمالية مثل هذا السيناريو واردة إلى درجة ما.
ثالثا: التصور الخاص بالأحزاب الدينية الحريدية أو الأحزاب اليمينية المتطرفة المشاركة بالائتلاف الحكومي وبخاصة تصور بن غفير وسموتريتش والداعي إلى إعادة احتلال كامل قطاع غزة والبدء ببناء المستوطنات فيه وبكثافة كجزء من منظومة الأمن في القطاع ومنع أي إمكانية لعودة حركة حماس كقوة عسكرية وسياسية وهو تصور لا يلقى أي قبول لا داخل دولة الاحتلال ولا في الإقليم ولا لدى واشنطن التي تصر على أن الحل الأمثل هو إعادة القطاع ليكون تحت سيطرة السلطة الفلسطينية كما كان قبل حزيران من عام 2007 أي قبل سيطرة حركة حماس على القطاع وذلك في إطار ما تسميه "حل الدولتين".
أمّا خارج "عقل الاحتلال" فكان هناك تصور فلسطيني طرحته شخصيات وطنية مستقلة ويتمثل هذا التصور بتشكيل حكومة تكنوقراط فلسطينية مشهود لها بالكفاءة والنزاهة تتولى إدارة القطاع وبخاصة ملف الإعمار وإعادة ترميم البنى التحتية فيه، وذلك بتوافق وطني فلسطيني ودعم اقليمي واسع يضم مصر والأردن والإمارات وقطر والسعودية، إلا أن التغيير الحكومي الذي تم قبل عدة أيام في رئاسة وزراء السلطة الفلسطينية وتعيين السيد محمد مصطفى رئيساً للوزراء بخلاف ما اتفق عليه في تفاهمات موسكو بين الفصائل، قد عرقل هذا التصور وقد يكون قد أنهاه بشكل كامل، وفي كل الأحوال يبدو لي أن أي تعاطى مع قطاع غزة على أساس أن حماس خارج الحسابات سيكون مصيره الفشل، والسبب هو أن الحركة باتت حالة متجذرة في القطاع وإلى حد كبير في الضفة الغربية الأمر الذي يحتم على راسمي خطط "اليوم التالي" للحرب على غزة أخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار ووضعها كجزء أصيل في المعادلة.