رغم غلبة تيار اليمين القومي والديني المتطرّف في إسرائيل، وجنوح معظم التيارات الإسرائيلية نحو دعم حرب الإبادة ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزة، ثمة أصوات يهودية، داخل إسرائيل وخارجها، وصلت في شجاعتها الأخلاقية والسياسية، إلى حدّ اعتبار عملية "حماس" الهجومية يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كعمل من أعمال المقاومة، ضدّ الاحتلال المستمر منذ 57 عاماً، وضدّ الحصار المستمر منذ 17 عاماً، وكردّ على انتهاكاتها المستمرة للمقدّسات، واعتداءاتها على الفلسطينيين، ومصادرتها حرّياتهم، وحقهم في تقرير المصير، بل فوق ذلك، اعتبار تلك الحركة جزءاً من حركة التحرّر الوطني للفلسطينيين؛ رغم إدانتها لتلك العملية، أو عدم رضاها عنها.
مثلاً، هذه الفيلسوفة والأكاديمية الأميركية جوديث بتلر تقول في إحدى محاضراتها تعليقاً على حرب غزة: "من الناحية التاريخية انتفاضة 7 تشرين الأول (اكتوبر) كانت عملاً من أعمال المقاومة المسلّحة، وليست هجوماً ارهابياً، وليست هجوماً معادياً للسامية، بل كانت هجوماً ضدّ الإسرائيليين... لم أحب هذا الهجوم… كان مؤلماً وكان فظيعاً... لكنني سأكون غبية جداً إذا قرّرت فقط أنّ العنف الوحيد في المشهد هو العنف ضدّ الإسرائيليين… العنف ضدّ الفلسطينيين موجود منذ عقود من الزمن".
وفي ذلك، فهي مع رفضها، أو ملاحظاتها، على تلك العملية الهجومية لـ"حماس"، ورفضها لبعض مجرياتها، إلاّ انّها طالبت برؤية اللوحة كاملة، وفي إطارها التاريخي، لا سيما مع مشاهد الإبادة الوحشية الواضحة، التي لا لبس فيها، والتي تقوم بها الآلة العسكرية الإسرائيلية، وتنقل صورها ووقائعها فضائيات العالم.
وكتفنيد لوجهة النظر الإسرائيلية الرسمية التي دأبت على الترويج لاعتبار ذلك الهجوم كأنّه بداية لتاريخ الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، واعتبار إسرائيل كضحية، طالبت بتلر بوضع ذلك الهجوم في سياقه التاريخي، وليس بمعزل عنه. فبرأيها "يتعيّن علينا توسيع رؤيتنا إلى ما وراء اللحظة الحالية المروعة، من دون إنكار رعبها، في الوقت نفسه الذي نرفض فيه السماح لهذا الرعب أن يختزل كل الرعب الموجود... وسائل الإعلام المعاصرة، في معظمها، لا تفصّل الفظائع التي عاشها الشعب الفلسطيني لعقود من الزمن في شكل تفجيرات وهجمات تعسفية واعتقالات وقتل".
ويُستنتج من ذلك أنّ بتلر، كغيرها من تلك الأصوات اليهودية، إذ تطالب برؤية عملية "حماس" في سياقها التاريخي، وكردّة فعل على سياسات إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والعدوانية، التي تدينها وترفضها. فهي تميّز، أيضاً، بين موقفها في إدانة أو رفض عملية "حماس"، وتأييدها للكفاح العادل للشعب الفلسطيني.
ويذهب نورمان فنكلشتاين (أكاديمي في الولايات المتحدة)، أبعد من ذلك، وكان والداه نجيا من المحرقة، وذلك بدفاعه عن شباب غزة، باعتبارهم ضحية ظلم إسرائيل، الذين "وجدوا أنفسهم في معسكر اعتقال كبير منذ ولدوا... نصف سكان غزة أطفال، 70 في المئة من سكان غزة هم لاجئون أو أولادهم وأحفادهم منذ 70 سنة، أغلب الشباب من دون وظائف، ولا مستقبل ولا فرص". وتبعاً لذلك يرى فنكلشتاين ما قامت به "حماس" كردّ طبيعي على سياسات إسرائيل، إذ أنّ "سجناء في معسكرات الاعتقال (كما كان والداه) اخترقوا البوابات... والداي كانا سيفرحان بهذا... والداي سيتعاطفان مع الذين اخترقوا بوابات معسكر الاعتقال (غزة) التي دمّرت حياتهم.... سألت امي مرّة كيف كان شعوركِ إزاء ما تعرّضت له المدن الألمانية خلال الحرب تحت القصف؟ أجابتني: "كنا نشعر انّه ما دام أننا سنموت فسنأخذ بعضهم معنا... كان من المستحيل أن يقولا كلمة طيبة عن الألمان باعتبار التجربة التي عايشوها... لذا ظلا يكرهان الذين دمّروا حياتهما". علماً أنّ فنكلشتاين هو مؤلف كتاب: "صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية" (2000).
هكذا، فإنّ محض تلك الأصوات تعاطفها مع الشعب الفلسطيني، وحتى تأييدها لكفاحه من أجل حقوقه الوطنية، والفردية، وضمنها حقه في تقرير المصير، لا تعني قبول نمط الهجوم الحمساوي، كما لا تعني إخراج تلك الحركة من إطارها كحركة تحرّر وطني.
ويفسّر ذلك شلومو بن عامي (أكاديمي وشغل منصب وزير خارجية إسرائيل في حكومة باراك 1999 ـ 2000)، بالآتي: "حماس لم تتصرّف بصورة غير عقلانية. فقد نجحت في إعادة القضية الفلسطينية، التي نُسيت، إلى واجهة المسرح العالمي... وقامت بتنصيب نفسها كقوة مهيمنة في الحركة الوطنية الفلسطينية... ومهما كانت نتيجة الحرب، فإنّ إرث "حماس" سيبقى جزءاً رئيساً من روح الحركة الوطنية الفلسطينية" ("هآرتس" 23/12/2023).
وهذا ما تؤيّده الصحافية الإسرائيلية المتعاطفة مع قضية الفلسطينيين، عميرة هاس، بقولها: "المقاومة والكفاح المسلح كانا ولا يزالان روحاً وطنية مقدّسة، حتى بالنسبة لأغلبية الفلسطينيين... يرى معارضو "حماس" أنّها منظمة انبثقت من المعارضة المشروعة لحكومة الاحتلال الإسرائيلي وكجزء من النسيج الاجتماعي والسياسي الفلسطيني... نعم، عاد تأييد خيار الكفاح المسلح وتعزز. لقد فشلت الدبلوماسية... أدّت المفاوضات وتوأمها الباقي ـ التنسيق الأمني ـ إلى تدمير منظمة التحرير الفلسطينية فعلياً وعزل السلطة الفلسطينية عن أغلبية الفلسطينيين. ومن هذه الإخفاقات ينشأ الكفاح المسلح وجاذبيته... ضدّ "عدو لا يفهم إلاّ لغة القوة" ("هآرتس"، 9/1/2024).
وكان إيلان بابيه، في رسالة جريئة عنوانها: "إلى أصدقائي الإسرائيليين"، عبّر صراحة عن إعجابه "بشجاعة المقاتلين الفلسطينيين الذين استولوا على اثنتي عشرة قاعدة عسكرية، وتغلّبهم على أقوى جيش في الشرق الأوسط". (Palestine Chronicle، 10/10/2023).
لنلاحظ هنا أنّ النقاش يتركّز على طابع هجوم "حماس"، وبعض الارتكابات التي جرت فيه، والتي اعترفت بها "حماس" في ما بعد في بيانها حول "طوفان الأقصى" (كانون الثاني/ يناير الماضي)، وليس على مشروعية المقاومة المسلحة، وأنّ ذلك النقاش لا صلة له بخلفية، أو معتقدات "حماس"، الدينية ـ الإسلامية، إذ النقاش، أو النقد، انصبّ على الجانب السياسي، وعلى طبيعة الخيار الكفاحي الذي اعتمدته "حماس"، مع تأكيد اعتبارها كجزء من نسيج الشعب الفلسطيني، وحركته الوطنية.
وباعتقادي، فإنّ ذلك، أي نقاش الخيارات السياسية والكفاحية، هو ما يفترض التركيز عليه، مع "حماس" و"فتح" والجبهات، بدلاً من أخذ النقاش إلى مواضع جانبية، تُخرج النقاش من غاياته، وتضرّ بالإجماعات الوطنية الفلسطينية.