بقلم: عبد الغني سلامة
بعد كل الدمار الذي حلّ بغزة، ومع أنهار الدماء التي أريقت، وهذه المحرقة التي أوصلت الناس إلى المجاعة، ومع انغلاق الأفق السياسي، وتكشُّف الموقف العربي والدولي الصامت والمؤيد والمشارك في العدوان.. ما زال البعض يراهن على انتصار المقاومة، ليس فقط إجبار إسرائيل على الانسحاب من غزة، بل وتحرير القدس.
هؤلاء راهنوا أن جيش الاحتلال لن يجرؤ على دخول غزة، وراهنوا أن المقاومة سترغمه على التراجع، ثم راهنوا على خان يونس، والتي وصفوها بمعقل المقاومة، والآن يراهنون على رفح.. وإذا أضفنا خمس جولات عدوانية سابقة شنتها إسرائيل على غزة، لا أعرف كم من التجارب يجب أن نخوض حتى نستخلص العبر.
طبعاً التمسك بالأمل مطلوب، والإيمان بحتمية النصر شرط أساسي لتحقيق النصر، والأيدي المرتجفة لا تصنع التغيير، والأرواح المهزومة واليائسة لا تصنع نصراً.. كل هذا صحيح، ولا شك فيه.. لكن ذلك كله يختلف جذرياً عن بيع الأوهام، وعن التعلق بأحبال الهواء، وعن الوعود السرابية.
خوض الحروب وتثبيت الصمود وتحقيق النصر يحتاج شروطاً معينة، وهذه الشروط لا علاقة لها بقيم الحق والصواب، ولا بالأمنيات والرغبات.. الحروب لا تُخاض بالشعارات، والخطب الإنشائية، والكلام البديع والمنمق.. بل بتقدير الموقف وفق حسابات دقيقة، ضمن رؤية إستراتيجية، تأخذ بالاعتبار كافة المعطيات السياسية والظروف الذاتية والموضوعية وموازين القوى محلياً وعالمياً... إلخ.
وعلى عكس المرجو، أتى شهر الصيام الفضيل ولم تأتِ الهدنة. وخلافاً لرغبة من هم في الخارج، جميع أهل غزة يتوقون لإنهاء الحرب، يريدون بشدة أن تتوقف فوراً، أن تُعلن هدنة.
وإذا استثنينا بعض الصور والمقابلات المنتقاة بعناية، ولو نظرنا لواقع غزة بقلوبنا وعيوننا وعقولنا نظرة متبصرة سنجد صورة مغايرة كلياً.. صورة بالغة القسوة والبؤس، وتنذر بكل ما هو خطير.. في كل يوم تشتد المجاعة، ويستشهد نحو مائتي إنسان، ويُجرح المئات، أغلبهم سيفقدون أجزاء من أجسادهم، سينضمون إلى ذوي الإعاقة، في كل ساعة يُدمر بيت، وتتشرد عائلة، أو تفقد معيلها، في كل ساعة هناك أطفال يُيَتّمون، ونساء يترملن، وأحلام تُقصف، وأمنيات تذوي، ومستقبل يهرب ويبتعد ويتحول إلى كائن مجهول ومخيف.
مع انتهاء هذا الشهر سنكون قد فقدنا بضعة آلاف من أبناء شعبنا.. سنكون قد خسرنا المزيد من الأرواح البريئة، وسكبنا أنهراً إضافية من الدماء الزكية.. سنكون قد ضاعفنا خسائرنا.
نتفهم ونبارك قرار المقاومين بالاستبسال والصمود ومواصلة القتال، لكن المستهجن وغير المقبول واللاأخلاقي فرحة البعض بعدم التوصل إلى تهدئة، وحماستهم بالخطابات والتهديدات التي تتوعد بمواصلة الحرب.. الذي سيعني بالضرورة مقتل الآلاف من النساء والأطفال والشبان، وتدمير آلاف البيوت، ومواصلة تشريد ونزوح مليونَي إنسان، وتضور مئات الآلاف منهم جوعاً.. كل هذا مقابل فرحتهم بتدمير بضعة دبابات ومقتل بضعة جنود! لا يمكن فهم سبب هذا الحماس.
يريدون مواصلة الحرب لأنهم معتقدون أنَّ «رمضان شهر الانتصارات»، و»ما من معركة خاضها المسلمون في رمضان إلا وانتصروا فيها».. رغم أنّ مجريات الأحداث بينت بكل وضوح مدى هشاشة وتهافت الرهانات التي راهن عليها من اتخذ «قرار الطوفان»، وبعد كل هذه الخسائر الباهظة، ما زال البعض يراهن على عناصر لا علاقة لها بإنجاز النصر، ولا بتثبيت الصمود، مقولات لا تطعم جائعاً، ولا تحمي طفلاً، ولا تردع عدواناً.
هل في قواعد الحروب والعلوم العسكرية شيء اسمه «الحروب في رمضان»؟ ألم تتعرض غزة لعدوان غاشم في الـ2014 واستمر 51 يوماً جاء خلالها رمضان وانقضى دون إحراز أي نصر، بل انتهت باستشهاد أزيد من 2600 إنسان، وخسائر مادية لم تُعوض حتى الآن؟ ألم يمر على نكبة الشعب الفلسطيني 75 رمضان؟ ألم تمر على الأمة العربية مئات الرمضانات، وما زالت تواصل انحدارها وهبوطها إلى القاع؟ كم من رمضان مر على مأساة السوريين والعراقيين واليمنيين والأفغان وغيرهم من بقية الشعوب المستضعفة؟
ألا يتذكر المسلمون الجهاد إلا في رمضان؟ ألا تعنيهم مأساة فلسطين سوى في رمضان؟ ألا تستفزهم صور القتل والدماء والدمار والأشلاء والجوع والنزوح والإذلال.. إلا في رمضان؟ أغلبهم أصلاً لا يتذكر الفقراء والمساكين وعمل الخير إلا في رمضان! ليس في هذا أي استهانة بالشهر الفضيل، شهر الخير والبركات والجهاد.. لكن الرهان على أن رمضان سيستفز المشاعر الإسلامية ويدفع بالناس للخروج إلى الساحات ما هو إلا رهان يُضاف إلى سلسلة الرهانات التي أدخلتنا هذا النفق المظلم.
وفي حقيقة الأمر رمضان بالنسبة لأغلبية الناس شهر القطايف والخروب والمسلسلات والسهرات والولائم.. ومن يريد النضال لا يحتاج شهراً معيناً.. لأن مأساتنا مستمرة 24 ساعة، على مدار الأسبوع، ومنذ أزيد من قرن كامل.
في حياة النبي الكريم خاض المسلمون 27 معركة وغزوة، اثنتان منها فقط وقعتا في شهر رمضان (بدر، وفتح مكة)، وخلال الـ1400 سنة الماضية خاضت الجيوش الإسلامية مئات وربما ألوف المعارك والحروب، سواء في الفتوحات، أم في الصراعات الداخلية، وربما عدد المعارك التي وقعت في رمضان تُعد على أصابع اليد الواحدة.
تزييف الواقع، ينتج وعياً زائفاً.. وتشويه الحقيقة يخلق ثقافة مشوهة.. والتزييف والتشويه لا يتم باختلاق الأكاذيب، لأن هذا من السهل اكتشافه، بل من خلال اجتزاء الحقيقة، وانتقاء بعضها بما يتوافق مع التوجهات الإعلامية المرسومة بدقة، ومن خلال مخاطبة العواطف بلغة ثأرية ورغبوية تحاكي ما يختلج في دواخل الجماهير من عواطف جياشة وكبت وثأر ورغبة جامحة بتحقيق انتصار سهل وسريع، أي بالخطابة والشعارات والتحليلات السطحية الساذجة.
ولأن هذه سمات خطابنا السياسي والإعلامي والديني فإننا نخوض الحروب بطريقة خاطئة، وبحسابات ساذجة، نعوّل على الغيبيات والخوارق والأمنيات.. وبالتالي في كل مرة نحصد الهزائم والانكسارات.
ثقتنا عالية بأن النصر من عند الله، لكن الله أمرنا الأخذ بالأسباب، والإعداد الكافي، وأن نستخدم عقولنا، وأن نفكر ملياً، ونحسب جيداً بتبصر وتروي.. وألا نضع مصلحة الحزب والقيادة فوق وقبل مصلحة الشعب.. وأن نكون رحماء بشعبنا، وأنَّ قطرة دم واحدة أهم من كل الشعارات والرموز والمقدسات، لأن حياة الإنسان هي قدس الأقداس.
عن الأيام الفلسطينية